وضع معقد لا يطفو منه على السطح إلا النزر اليسير ويظل جله ، إلى اليوم ، رهين مشاورات ومفاوضات وصفقات وموازين قوى وتريد كل القوى الفاعلة أو الطامحة إلى ذلك تحسين شروط التفاوض وتحقيق بعض المكاسب في انتظار يوم الحسم ..
الفرق بين اليوم والأمس لا يكمن في حجم هذا التعقيد وعمقه بل في اقترابنا من المواعيد الانتخابية التي تفرض على كل الأطراف استحثاث الخطى حتى لا يفوتها ركب الصندوق..
ما هو الغامض بالضبط في المشهد السياسي؟
1 - مآلات الصراع والصراعات داخل العائلة الندائية الموسعة (أي بإقحام حزب «تحيا تونس» المساند لرئيس الحكومة) إلى من ستؤول الغلبة داخل حزب النداء بالمعنى الضيق أي بين القيادة الحالية الملتفة حول حافظ قائد السبسي وبين معارضيه المتجمعين في ما تبقى من المكتب التنفيذي وهل سيتمكن الفريقان المتخاصمان من الذهاب إلى مؤتمر أفريل (؟) معا أم سيعيق هذا الصراع المفتوح إمكانية قيام المؤتمر ، وإن قام فسيكون مؤتمر الشق الضيق بما يفاقم أزمة النداء مجددا ..ثم هل سيلجأ الطرفان للقضاء في إطار صراعهما حول أحقية تمثيل نداء تونس ؟ وهل سيتمكن القضاء في هذه الحالة من الحسم الواضح والسريع أم سنقترب من الحملة الانتخابية ولدينا طرفان يدعيان التمثيل القانوني لما تبقى من النداء ؟
2 - النقطة الغامضة الثانية مرتبطة بالأولى وهي أي تموقع وأي طموح لرئيس الجمهورية ؟
هل سيتدخل رئيس الجمهورية في الأزمة الندائية الجديدة أم سيواصل على نفس النهج : حياد في الظاهر ودعم لشق نجله في واقع الأمر ؟ ثم هل سيعلن الباجي قائد السبسي ترشحه لولاية ثانية وفي هذه الحالة هل سيكون مرشح النداء أم مرشح جبهة أوسع ؟ وما هي مكونات هذه الجبهة لو وجدت ومن سيلتحق بها ؟ وعلى أساس أي برنامج .وهل ستكون جبهة برلمانية كذلك ؟
3 - ماهي إستراتيجية حركة النهضة الانتخابية؟ الواضح أن الحركة الإسلامية تراهن بصفة كلية على إنجاح الانتخابات العامة في الخريف القادم وفي مواعيدها ودون تشكيك في نتائجها لا فقط لاعتبارات أخلاقية ولكن لأن مصلحة حركة النهضة تكمن في تأصيل المسار الديمقراطي وفي انتخابات دورية في مواعيدها المحددة سلفا لأن ذلك هو الضامن الأساسي للاندماج المنشود والنهائي في النسيج السياسي والمجتمعي التونسي لأن الحركة الإسلامية مازالت مسكونة بهواجس الإقصاء وما يتبعه وهي تخشى من كل دعوة يشتم منها تأجيل الانتخابات أو تشكيك في نتائجها أو تأليب الرأي العام ضد الديمقراطية وهذا ما يفسر أن النهضة تبحث اليوم عن «مسافة الأمان» بينها وبين حكومة الشاهد على حد عبارة القيادي النهضوي العجمي الوريمي ، فالنهضة لا تريد أن تتقدم غدا للانتخابات باعتبارها المساند الرسمي لمشروع يوسف الشاهد السياسي فهذا يضعفها ويجعلها محل شبهة من كل القوى السياسية في البلاد..
تريد النهضة أن تقول اليوم على لسان رئيسها بأنها لا تمانع في حكومة انتخابات تعوض الحكومة الحالية حتى لا تكون الانتخابات القادمة محل طعن من أحد وحتى يتقدم مشروع الشاهد على قدم المساواة مع بقية المتنافسين .. ولكن ما هو غامض هنا : هل ستجعل النهضة من مغادرة حكومة الشاهد شرطا لا بد منه أم مجرّد تلويح بين الفينة والأخرى لتقول في النهاية بأنها غير مسؤولة عن بقاء الحكومة لو تشبث رئيسها بالقصبة؟
4 - ماهي إستراتيجية الشاهد وحزبه الجديد «تحيا تونس» ؟ قلنا في أعداد سابقة أن رغبة رئيس الحكومة هي البقاء في القصبة إلى آخر وقت ممكن أي قبل أسابيع (شهرين مثلا) من الموعد الانتخابي الحاسم وهو الرئاسية ؟ أي البقاء في القصبة إلى أواخر شهر سبتمبر القادم ولكن بالطبع انهالت وستنهال انتقادات عدة على يوسف الشاهد باعتباره يوظف هالة الحكم لمصلحته ولمصلحة حزبه الناشئ..
ما هي الحجة الأساسية لبقاء الشاهد في الحكم من وجهة نظره ؟ المحافظة على الاستقرار الحكومي في ظل صعوبات عدة تهدد البلاد.. ولكن في كل حالة سيغادر رئيس الحكومة القصبة ليقوم بحملته الانتخابية وسيترك الحكومة لما لا يقل عن ثلاثة أشهر : شهران قبل الانتخابات الرئاسية وشهر بعدها أو يزيد .. إذن المغادرة قادمة فلم تأخيرها إذن؟
يبدو أن المشروع السياسي الجديد لصاحب القصبة مازال عوده غضّا وهو يخشى عليه من الرياح العاتية عندما يغادر الحكم إذ لا شيء يؤكد بقاء جاذبية «تحيا تونس» عندما يغادر زعيمها القصبة وهالتها..
هذه المعادلة المعقدة غير خافية بالمرة على يوسف الشاهد والفريق المقرب ولكن حساب المنافع والمضار ليس واضحا لديهم ولذا تراهم يترددون في الحسم في مسألة هي مصيرية لهم بكل تأكيد ..
5 - كثيرا ما رددت القيادات النقابية منذ أشهر أن اتحاد الشغل معني بالانتخابات التشريعية والرئاسية ولكن إلى حد كتابة هذه الأسطر لا أحد يعلم كيف ستكون هذه المشاركة .. هل سيشارك الاتحاد بقائمات خاصة أم سيدعم قائمات مستقلة ام سيكون طرفا في جبهة أوسع ؟
تكتم كبير حول نوعية هذه المشاركة التي تفكر فيها قيادات الاتحاد منذ عدة أشهر ولكن المجال السياسي التونسي متحرك ورماله ليست صلبة ومشاركة نقابية مباشرة قد تزيد في تعقيد المشهد..
الأكيد أن الهياكل القيادية في المنظمة الشغيلة ستدرس كل المتاحات أمامها خلال الأسابيع القادمة قبل أن تعلن موقفها النهائي من شكل وعمق هذه المشاركة المحتملة..
الواضح في كل هذا التعقيد هو انه لدينا انتخابات تشريعية في أكتوبر القادم ودور أول للرئاسية في نوفمبر وروزنامة ستعلن عنها هيئة الانتخابات بعد حوالي 10 أيام وأن موازين القوى الحالية كما تبدو من خلال سبر آراء نوايا التصويت الذي أجرته مؤسسة سيغما كونساي بالتعاون مع جريدة المغرب تعطي تقدما واضحا للنهضة في التشريعية بـ%33 من نوايا التصويت المعلنة وتراجعا حادا للنداء بـ%15.5 في انتظار معرفة الوزن الأولي لحزب «تحيا تونس» في عملية سبر الآراء القادمة كما يعطي سبر الآراء هذا تقدما كبيرا للشاهد في الرئاسية (%30.3) مقابل إمكانية إخفاق رئيس الدولة الحالي الباجي قائد السبسي في تجاوز الدور الأول ..
هذه المعطيات ستؤثر بدورها في التموقعات خاصة بعد معرفة مآلات الجلسة العامة اليوم لمجلس نواب الشعب ومعرفة هل ستتم المصادقة على العتبة المقترحة بـ%5 في الانتخابات التشريعية ..
سوف ندرك غدا هل أن هنالك اتفاقا غير معلن بين جملة من الأحزاب بقصد إسقاط العتبة أم أن الكتل الكبيرة ستعمل كلها على تمرير هذه العتبة بغض النظر عن احتجاجات كل مكونات المعارضة ..
لقد انطلق السباق الفعلي للانتخابات وسط ضباب كثيف يحجب بعض الرؤية .. ضباب سينقشع تدريجيا مع اقترابنا من يوم الحسم ..