تونس ما بعد حكم الشيخين !

مؤشرات عديدة تدل أن الرجلين الأكثر تأثيرا في حكم البلاد خلال العشرية الأولى ما بعد الثورة بصدد (؟) مغادرة الحياة السياسية بشكل قد يكون نهائيا ..

الباجي قائد السبسي الوزير الأول خلال 2011 وزعيم المعارضة من2012 إلى 2014 وأول رئيس جمهورية منتخب كان ولاشك أحد أهم الفاعلين السياسيين إن لم يكن أهمهم خلال هذه العشرية ، مرتبة أولى يتقاسمها نسبيا مع «الشيخ» الأصغر راشد الغنوشي الذي كان على امتداد هذه العشرية أحد مراكز الثقل والحكم الأساسية بالبلاد..
ويبدو أن نهاية هذه العشرية الأولى قد تشهد النهاية (؟) السياسية لكليهما فالأول قد يضطر لعدم تجديد العهدة الانتخابية لان حظوظ فوزه في الانتخابات القادمة تبدو متواضعة والثاني لأن النظام الداخلي لحركة النهضة المتبنى في مؤتمرها التاسع في جويلية 2012 لا يسمح له إلا بولايتين فقط تنتهيان في النصف الأول لسنة 2020 وهكذا يكون الشيخان اللذان دخلا هذه العشرية كعدوين لدودين وتحالفا سرا وعلانية لمدة خمس سنوات ( من لقاء باريس الشهير في أوت 2013 إلى سبتمبر 2018) ثم انهياها من جديد متخاصمين ولكن دون حدة البدايات سيخرجان معا ، بفارق أشهر معدودات ، من واجهة الأحداث ومن صنع أهم القرارات ..

استعملنا بعض التنسيب في كل ما سبق لأن الأيام حبلى في تونس بالمفاجآت وقد نرى هذا الزوج السياسي يغالب عجلة الزمن بالسعي إلى تأجيل المغادرة إلى منتصف العشرية القادمة ، ولكن عامل السن للاثنين والصعوبات السياسية الجمة للأول والنظام الداخلي للثاني قد يجعل المغادرة المزدوجة خلال الأشهر القادمة هي الأقرب واقعيا وسياسيا..
والسؤال اليوم هو كيف ستكون تونس ما بعد حكم الشيخين ؟ هل سنكون فقط أمام تداول أشخاص على الحكم أم سيكون لغياب الشيخين تبعات جوهرية على الحركتين السياسيتين اللتين تزعماها وعلى طريقة ممارسة الحكم في البلاد كذلك ؟

الأكيد أن حركة النهضة لن تندثر بعد راشد الغنوشي على عكس ما يبدو أنه حاصل مع النداء وذلك خلال حكم الباجي قائد السبسي فما بالك بعد رحيله من الساحة السياسية فتأثير «الشيخين» في حزبيهما مختلف للغاية وهذا ما نراه أمامنا رأي العين، بمعنى أن خلافة الغنوشي ستظل لفترة قد تطول داخل الأطر التنظيمية لحركة النهضة مقابل تشتت ارث قائد السبسي الأب بين من مازال يعتقد بإمكانية تواصله داخل إطار النداء ومن يئس من ذلك بصفة نهائية ..

ولكن في نفس الوقت فإن تعويض راشد الغنوشي أعسر بكثير من تعويض الباجي قائد السبسي ، فالأول مؤسس الحركة الإسلامية وزعيمها منذ نصف قرن بالضبط ولا وجود لشخص يضاهيه داخلها اليوم والنهضة بعد الغنوشي كائن سياسي لم تتحدد بعد معالمه النهائية في ظل صراع الأجنحة والشخصيات (انظر مقال حسان العيادي) أما الباجي قائد السبسي فدوره،على أهميته البالغة، أقل من ذلك بكثير إذ اقتصر في جوهره على نوع من الإحيائية البورقيبية وحامل لمشعل تكاثر الطامحون لحمله اليوم رغم انف قائد السبسي ذاته ..

الواضح على كل حال أن بعد الشيخين ستستوي الرؤوس وانه لم يعد بإمكان احد لا داخل النهضة ولا داخل النداء (بالمعنى الواسع والتاريخي للنداء)قادر على لعب دور الزعيم أي الشخصية الكارزمية القادرة على التوحيد وأحيانا على فرض توجه لحزبه يتعارض جزئيا مع رغبة أغلبية الكوادر القيادية ..
فلو لا راشد الغنوشي لما كان بإمكان النهضة الاقتناع بضرورة التخلي عن الحكم في 2013 ولا التحالف مع النداء بعدها ولو لا الباجي قائد السبسي لما أمكن كذلك للندائيين القبول بالحكم معا مع النهضة ..

وهذا يعني غياب طينة الأشخاص القادرين على فرض التوافقات الضرورية وأن تتحول هذه القدرة إلى المؤسسات الحزبية القيادية ولكن كيف ستتصرف القيادة في المسائل الحارقة والتي تنقسم حولها المواقف بحدة ؟ من سيجمع ؟ ومن سيوحد فيما بعد ؟
اقتناع كل القيادات بالبقاء معا ؟ لقد رأينا أن هذه الآلية غير موجودة في النداء مثلا فهل ستتوفر عند النهضة بعد مغادرة مؤسسها وزعيمها ركح السياسة ؟

بعبارة أدق هل ستتمكن مختلف الحساسيات التي تتعايش اليوم داخل النهضة من مواصلة التعايش بعد غياب الزعيم ام ستشهد الحركة الإسلامية موجة من الانشقاقات بحكم تعدد المشارب والقيادات والطموحات وحتى المصالح ؟
رحيل الشيخين عن واجهة الأحداث بإمكانه أن يمهد لحياة سياسية تعوض الفرد بالمؤسسة ولكن هنالك احتمال ثان وهو تعويض الفرد ببعض الأفراد واستعاضة نرجسية الزعيم بنرجسيات منفلتة..

ولكن الايجابي على كل حال هو أن غياب الزعيم المسن عن الساحة سيسمح ببروز جيل سياسي جديد وبالانتقال من عقلية الجماعة التي مازالت تحكم في وعي أو لا وعي الحركة الاسلامية ولو جزئيا إلى مؤسسات فعلية تحتكم إلى إرادة جماعية .

تونس السياسية ما بعد الشيخين لن تكون جنة وردية او جهنم حارقة كما أننا لن نشهد غياب الطامحين للزعامة ولتعويض الفراغ الذي سيتركه الشيخان.. فالانتقال من السياسة المبنية على الزعامات الفردية إلى سياسة أحزاب عصرية وقيادات منتخبة ومؤسسات فاعلة لن يحصل بين عشية أو ضحاها .
ولكن العنصر المجهول يبقى بالتاكيد يحوم حول مستقبل الحركة الإسلامية ووحدتها وهويتها بعد الرحيل السياسي للغنوشي وسوف ندرك بعد أشهر قليلة من هذا التداول المنتظر على قيادة النهضة مدى جاهزية الحركة للتحول كلها الى حزب مدني بالفعل ام ان الترسبات القديمة ستعود إلى الظهور بقوة ؟

تونس تعيش اليوم بصفة فعلية بداية فترة ما بعد الباجي قائد السبسي وهي ستعيش في الغد القريب على وقع الغياب السياسي الظاهري على الاقل للشيخين ولكن هل ستبقى محكومة بثنائية هذين الحزبين في صيغتهما الحالية أم المعدلة ؟

والسؤال هنا هل ستستفيد تنظيمات المعارضة من ترتيب البيتين الندائي والنهضوي أم سنتجه بصفة إستراتيجية إلى ما يشبه حكم الحزبين وطغيانهما على الحياة العامة ؟
تحولات كبيرة منتظرة ولكن ما لا نعلمه هو مدى عمقها وهل أنها ستغير من جوهر التوازنات السياسية ام فقط من المشهد الظاهر فحسب ؟
سيغيب الشيخان اليوم أو غدا ولكن هل سيغيب إرثهما ؟ إن غدا لناظره قريب ..

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115