الحوار التونسي حتى أفقنا جميعا ومن جديد على الخطر الجسيم الذي يمثله التطرف الديني في ثوبه السلفي على البلاد والعباد .. ونحن هنا لا نتحدث عن المستوى الكمي ، فالتطرف الديني يظل هامشيا إلى حدّ ما ولكن عن المستوى النوعي إذ نحن أمام تيار عقائدي لا يتورع عن استعمال كل الطرق للعصف بأهم العناصر المؤسسة لعيشنا المشترك ..
لقد اكتشفنا في هذه الحالة أن هنالك محاولة متقدمة للعصف بالعشرات من أبنائنا 42 من القصر و27 من الراشدين الذين قبل أولياؤهم (أو أولياء جلّهم) بانتزاعهم من مقاعد الدراسة وبإرسالهم إلى مكان يتم فيه تجنيدهم وتعبئتهم ولكن باستغلالهم اقتصاديا وأيضا جنسيا كذلك وفق التحقيقات الأولية وفي ظروف صحية ونفسية منافية لأبسط حقوق الطفل وقواعد التربية السليمة ..
وبالطبع بعد اكتشاف الكارثة الإنسانية تداعى كل دعاة التشدد الديني وداعميه إلى التنديد بتدخل السلط العمومية والقول بأن هؤلاء الأطفال قد تم احتجازهم والحال أن الدولة تدخلت بأجهزتها لتحرير أطفال قصر تم انتزاعهم من بيئة طبيعية وإجبارهم من قبل عائلاتهم على العيش في إطار مخالف لكل القوانين ومناف لكل الحقوق ومليئ بكل الآفات المادية والمعنوية .
ما حدث في هذه « المدرسة» التي يقال عنها زورا بأنها قرآنية يذكرنا بتجربة طالبان وبوكو حرام وحركة الشباب بالصومال وقبلها بكثير ما تعرض له أطفال ألمانيا زمن النازية ، أي خلق جيل من المؤدلجين الذين تشربوا منذ الصغر التطرف والحقد قصد استعمالهم فيما بعد كقنابل موقوتة تسفك الدماء بكل برودة دم.. وهذا ما يبدو أنه حصل بالفعل مع بعض خريجي هذه «المدرسة»..
التطرف الديني المؤدلج لا يختلف في شيء عن الإيديولوجيات الفاشية التي عرفتها أوروبا في النصف الأول من القرن العشرين .. وخطر التطرف الديني المؤدلج لا يقتصر فقط على صاحبه بل يمتد إلى محيطه العائلي الواسع أو الضيق وتراه يحرص على الحشد والتعبئة للأطفال منذ نعومة أظفارهم وحتى قبل سن التمدرس ، ونرى أيضا حرص التطرف الديني المؤدلج فرديا وجماعيا على الإخراج الفعلي أو المعنوي للأطفال القصر من المنظومة التربوية الرسمية
والسؤال الأساسي اليوم هل نحن أمام تجربة معزولة في « المدرسة» أم أن هنالك عشرات وربما المئات من هذه «المدارس» وإن كانت بغير هذه الأشكال المزرية ؟
السلفية الجهادية كعقيدة لا تنحصر فقط في الجماعات الإرهابية المسلحة في الجبال أو في المدن ،السلفية الجهادية مبثوثة أيضا في أذهان وممارسات دعاة التطرف الديني والذين لا يفوتون فرصة واحدة للدفاع عن كل مظاهر التطرف الفكري والسلوكي في البلاد..
مازلنا في تونس لم نضع بوضوح الخيط الفاصل بين المحافظة الدينية التي تصل إلى الإسلام السياسي وبين التطرف الديني المؤدي ضرورة إلى العنف والإرهاب بصفة موضوعية..
هذا الخيط الفاصل ضروري حتى يتحمل كل طرف مسؤوليته كاملة خاصة في العائلة التي تنتمي إلى الإسلام السياسي والتي تريد أن تكون في قطيعة نسبية على الأقل مع التطرف الديني ..
وفي تونس لم نفكر بعد بصفة جدية في المقاومة الفعلية للتطرف الديني لا فقط على المستوى الأمني بل كذلك على المستوى الاجتماعي والثقافي والفكري خاصة عندما نرى أمام أعيننا أن هنالك عددا من أطفالنا وشبابنا يراد لهم أن يكونوا وقودا لمعركة تحطم الأوطان وقبل ذلك إنسانية الإنسان ..
التطرف الديني ليس خطرا نظريا فقط بل هو خطر ملموس وخطره على القصر مدمر وهذا ينبغي أن يدفعنا جميعا إلى فتح أعيننا أمام كل الانتهاكات الواضحة والضامرة لحقوق أطفالنا في تنشئة سليمة تحترم فيها حقوقهم المادية والمعنوية وفق ما يفرضه دستور البلاد وقوانينها والمواثيق الدولية التي أمضت عليها تونس .