إذ صار بإمكان السعوديين حضور حفلات الغناء والاستمتاع بالتظاهرات الفنية (المسرح والسينما...) والترفيهية والرياضية وغيرها. ولئن تحقّق للنساء مطلب قيادة السيارات فإنّ حقوقا أخرى لاتزال في قائمة اللامفكّر فيه إلى حدّ الآن هذا بالإضافة إلى تباين وجهات الرأي حول سياسات «الانفتاح» التي يقرّرها ‹محمّد بن سلمان› بين مرحّب وغاضب مصرّ على التمسّك بعاداته وأعرافه ومقاومة موجة التغيير.
وما يسترعي الانتباه في هذه السياسات الجديدة و«الصادمة» أنّها باتت تتجاوز التفكير في تغيير معيش السعوديين إلى تقديم بعض الحقوق للجالية المسيحية المقيمة في المملكة. فقد أعاد «بن سلمان» النظر في المطالب التي تقدّم بها سابقا كاردينال الروم الكاثوليك Jean Louis Tauran 2012 والمتمثّلة في السماح ببناء الكنائس وتمكين المسيحيين (2 مليون) من ممارسة شعائرهم في السعودية. ورغم كتم الأمر فإنّ المرجّح أنّ المفاوضات مع الفاتكان حقّقت النجاح المأمول وستبدأ شركة مصريّة «المقاولون العرب» في بناء أول كنيسة بعيدة عن المدينة ومكة. وفي انتظار تشييد الكنيسة عقد في شهر ديسمبر الفارط أوّل قداس حضره بعض المسيحيين. وحسب رئيس وفد المسيحيين الإنجيليين فإنّ هذه الكنيسة ستكون تحت إشراف الكنيسة المصرية ولن تكون الكنيسة الوحيدة إذ وعد «بن سلمان» بالسماح للمسيحيين بتشييد كنائس أخرى في السنوات القادمة.
من حقّ السعوديين أن يحلموا بالسعادة والعيش المرّفه ولكنّ السؤال الذي تواجهه القيادة السعودية اليوم: ما موقع الحقوق الطبيعية والحقوق الإنسانية في هذه السياسات؟ وما تجلّيات الحقوق المواطنية في المجتمع السعودي؟
من حقّ الجالية غير المسلمة أن تحلم بدورها بأن تتمتّع بحقوقها وأوّلها الحقّ في ممارسة الشعائر ولكن السؤال الذي ستجد القيادة السعودية نفسها مضطرة للإجابة عنه:ما حظّ الأقليّات الأخرى غير التوحيدية والتي تعدّ في دائرة «الشرك المبين» ؟ وما شأن التعددية المذهبيّة والتعددية الدينيّة ؟
لاشكّ أنّ لهذه السياسات مقاصد منها :الرغبة في تغيير صورة المملكة (التي ترى أنّها ممثّلة الإسلام السنيّ) لاسيما بعد أن أساء ظهور «داعش» للإسلام والمسلمين، ومنها إدراج هذه القرارات ضمن برنامج «الانفتاح الديمقراطي» وتموقع السعودية في الدوائر الحقوقية في هيئة الأمم المتحدة، ومنها انتزاع الاعتراف الدولي بأنّ المملكة تضمن حقوق رعاياها بما فيهم الجالية الوافدة ، ومنها أيضا اعتماد هذه السياسات مطيّة لبناء علاقات دولية مختلفة عن السابق. غير أنّ سياسات التحديث تبقى، في نظرنا، شكلية ومحدودة النتائج ذلك أنّها لم تنبع من القاعدة بقدر ما عبّرت عن خيارات «الحاكم» ثمّ إنّها لم تسر على نسق متدرّج يراعي الذهنيات المتكلّسة منذ حقب، ولم تسبق بإصلاحات تشمل المؤسسة الدينية الرسمية ومن هنا فإنّ دائرة المقاومة ستتسع.
إنّ حقوق الإنسان كلّ لا يتجزّأ لأنّها منظومة متشابكة ومتماسكة فإذا منحت المسيحيين حق ممارسة الشعائر فينبغي أن تنظر في مطالب بقيّة الأقليات كالبوذيين، وهم الذين يشكلّون «العمالة» التي ترنو إلى الاستمتاع بكرامتها وبحقوقها الاقتصادية وغيرها، وإذا سمحت بحقّ ممارسة الحرية فإنّ هذا الحقّ غير منفصل عن حقوق أخرى منها الاعتراف باللادينيين السعوديين الذين ارتفعت أصواتهم عاليا منذ سنوات، ومنها أيضا الاعتراف بالطائفة الشيعية وحقّها في المواطنة الكاملة.
إنّ التحديث عملّية معقّدة تخضع لمنطق الانسجام بين المادي والمعنوي، الشكلي والجوهريّ، وهي عملية بناء تتطلبّ عقدا اجتماعياّ جديدا وتغييرا للنظرة إلى الإنسان فهو هدف وليس وسيلة لتحقيق السياسات المرسومة. ويبقى جوهر التحديث تأسيس السياسات على فكر نقديّ يقبل بالاختلاف قاعدة للعيش معا فيرتفع صوت الآذان ويتجاور مع دقّ النواقيس.