هو لا يقر بحق أحد في النقاش وإن حصل فهو جزئي وفي قاعة مغلقة وإن أخّر القرار فلا يتجاوز ذلك الدقائق أو الساعات ..
فالاستبداد يسجل نقطة ضد الديمقراطية في البداية ولكن الديمقراطية تهزمه بعد ذلك بالضربة القاضية إذ القرار الناجم عن نقاش يتجنب كل مطبات الاستفراد بالرأي والإصرار على الخطأ ، هذا لو افترضنا في المستبد حسن النية أما لو كان الأمر انتصارا لمصلحة ضيقة أو لفساد باطن أو ظاهر فالديمقراطية منتصرة على الاستبداد أولا وآخرا ..
هذه هي القاعدة العامة في ما يسمى بالديمقراطيات العريقة ولكنها لا تصمد أمام كل النماذج ولا تنطبق أيضا على كل التجارب.. إذ يقوم النقاش في الديمقراطية على مبدإ فلسفي قوامه المقارعة العقلانية للحجج وان الرأي الغالب هو دوما مع الحجة الأمثل والأكثر عقلانية تحت القاعدة الشهيرة التي وضعها فيلسوف الحداثة روني ديكارت قي كتابه الشهير « خطاب المنهج» : العقل السليم (le bon sens) هو الشيء ، في العالم الأكثر اقتساما» ولكن ما بين عصر ديكارت وعصرنا الحالي اكتشفنا مسائل عدّة ليست كلها سارة ومن أهمها ، ربما، أن العقل السليم ليس دوما هو المسألة الأكثر اقتساما بل سوء النية أو الجهل أو التعالي أو الكبرياء هي أحيانا القيم الأكثر اقتساما بما يجعل النقاش الذي تبيحه الديمقراطية وتتأسس عليه حلبة الصراع لا ينتصر فيه عادة العقل السليم..
وإذا ما أضفنا أن النقاش العام عندما أصبح يتسم باطراد بالسبّ والشتم والتخوين المتبادل وبالريبة في كل شيء نفهم جيدا لِمَ لا يفرز النقاش العام في أحيان عديدة القرارات المناسبة والقادرة على التطبيق ..
ولكن ينضاف إلى هذا العنصر أمر ثان على غاية من التعقيد وهو استحالة الاتفاق الأدنى على قواسم مشتركة بين الأطراف الفاعلة سياسيا واجتماعيا بما يعيق أي تقدم جدي نظرا لعدم قدرة الأطراف الحاكمة على تمرير قراراتها دون الحد الأدنى من الاتفاق حولها ..
لقد عشنا أزمة خانقة في 2013 عندما اختلفنا حول الاختيارات المجتمعية والسياسية الكبرى بين النهضة الحاكمة وجل خصومها ولكن وجدت تونس حينها المنظمات الاجتماعية والحقوقية الكبرى وعلى رأسها اتحاد الشغل الذين لعبوا دور الوسيط النشيط لا ليفتكوا الحكم من السياسيين ولكن ليجبروهم على الجلوس إلى الطاولة والوصول إلى المشترك الأدنى ..
ولكن اليوم عندما تتخاصم الحكومة مع الاتحاد أين نجد الوسيط النشيط ؟ رئاسة الجمهورية ؟ مجلس نواب الشعب ؟
للأسف الشديد بالنسبة لبلادنا أننا فقدنا القيمة الرمزية لهاتين المؤسستين المنتخبتين. رئاسة الجمهورية بحكم الانخراط المباشر وغير المباشر لرئيس الدولة في مساعي «التوريث الديمقراطي» بما أفقده كل دور تحكيمي ذي معنى، ومجلس نواب الشعب لأنه لم يقدر في أي مرحلة من مراحله على احتضان النقاش السياسي الأساسي في البلاد والذي تم في كل مرة خارج قبة باردو بالإضافة إلى عدم قدرة البرلمان على امتداد هذه السنوات الأربع على استكمال بناء المؤسسات الموكولة إليه والتدهور الكبير لصورته لدى عموم التونسيين بفعل السباب والشتم والمعارك السياسوية التي طغت في تمثل التونسيين له .. الديمقراطية في احد أبعادها الأساسية هي حسن إدارة الخلافات والأزمات أيضا ووجود هيئات ومؤسسات وشخصيات تلعب دور الوساطة ..
فالطرف الثالث أساسي في الديمقراطية والإشكال، كل الإشكال، لو تحول الطرف الثالث إلى طرف نزاع أساسي يجعل من الوساطة مهمة مستحيلة في بلادنا ..
أحيانا ينسى الطامح لحكم البلاد وهو اليوم في موقع المعارضة أو الاحتجاج انه قد يستلم مقاليد البلد في الانتخابات القادمة أو التي تليها وانه سيتعرض حينها لاكراهات الحكم وأن تعامله كمعارض لا ينبغي أن يتناقض بصفة جوهرية مع تصرفه غدا كحاكم أو كطرف في الحكم ..
ببساطة التلذذ بالنقد الجارح والجذري للحكام اليوم دون أن تكون للمعارض نزاهة الاعتراف بتعقد وضع ما من شانه تدعيم المخيال السحري للسلطة القادرة على كل شيء وانها إن امتنعت أو عجزت عن شيء ، فلأنها لا تريد ليس إلا ..
إيهام الناس بأن كل شيء ممكن في المدى القصير وانه ينبغي فقط تغيير زيد أو عمر إنما يسهم في هذا المخيال السحري ويجعل من حكم تونس اليوم وغدا عملية شبه مستحيلة ..
تونس في مفترق طرق فعلي لا افتراضي وليس لنا مخرج وحيد من التيه سوى إيجاد الحد الأدنى المشترك لمعالجة مشاكل البلاد وللتقدم باقتصادها .. أما لو تنازعنا إلى الأبد فستذهب ريحنا جميعا لا محالة ..