مطيّة للحديث عن اتساع دوائر الخوف في تونس وتعدد مجالاتها وتشابك مكوّناتها وأثرها على المسار الانتقالي ونحن نستعدّ لخوض الانتخابات. وتتمثل الدائرة الأولى في شعور المنتمين إلى حزب النهضة من قيادات وقواعد بالخوف: الخوف من المحاسبة بعد أن تمظهرت بوادر المساءلة وانكشفت الحجب لتظهر روايات مدعومة بوثائق وشهادات...والحال أنّ القوم اعتقدوا أنّ الملف قد احكم غلقه وحصل التوافق وتحقق الإفلات من المساءلة والمحاسبة. وقد بدت حالة الخوف جلّية من خلال ردود الفعل المرتبكة والانفعالية وغير المقنعة: و التي تراوحت بين محاولات الدفاع التي تتخذ من الهجوم والتهديد استراتيجية، والسعي إلى التفاوض وتقديم التنازلات فضلا عن التنصل من المسؤوليات والإنكار بل وصل الأمر إلى تخلّص الحزب من بعض العناصر التي أضحت تشكل عامل تهديد لمساره.
وتكمن تجليات الخوف في التوجس من المستقبل،والخشية من تأثير الجبهة الشعبية والمتعاطفين معها أو مع الشهيدين بلعيد والبراهمي على مسار الانتخابات، لاسيما بعد أن سعى القياديون والفاعلون إلى تنشيط ذاكرة التونسيين وكشف النقاب عن قضايا تتصل بدور الجهاز السري في مسار الانتقال الديمقراطي، و تورط الحزب في قتل الشهيدين وضياع الهبة الصينية ... ومما لاشك فيه أنّ هذا الاحتقان سيربك تموقع حزب النهضة سياسيا واجتماعيا ويعيد تشكيل صورته في الداخل والخارج.
أمّا الدائرة الثانية فتتمثّل في هيمنة مشاعر الخوف على المهمّشين والمنسيين بعد أن عسر العيش وباتت البلاد في نظرهم، تلفظ أبناءها عاجزة عن تقديم ضمانات وإجابات مطمئنة بخصوص الحاضر والمستقبل. وحين تتضاعف نسب البطالة وتغيب النماذج القدوة ويستشري الفساد لا يبقى أمام هؤلاء المحبطين سوى الاحتراق أو الحرقة ووهم التحرر من ضنك العيش. وحين تضيق الحياة ويوأد الحلم تستبد الكآبة بالناس ويصبح الموت هو المنتهى فلا تسأل بعدها ما الذي يدفع الشبان والكهول : الرجال والنساء إلى قطع الوصلة بالوطن والرحيل بلا عودة؟
وإذا نظرنا إلى الدائرة الثالثة للخوف اتضحت لنا الصلة بين السياق الاقتصادي السياسي والطبقة. فالمنتمون إلى الطبقة الوسطى اربكت منازلهم وما عادوا يمثلون قوّة التحديث .فالفئة التي كانت في أعلى الترتيب صارت أقرب إلى الطبقة الدنيا ومن ثمة صارت فاعلة في المسار الاحتجاجي أكثر من ذي قبل نظرا إلى التهديدات التي بدأت تلاحظها إن كان على مستوى الحاضر أو المستقبل أو بالعكس هاربة من الواقع المعقد مرتمية في أحضان من يسوقون خطابا دينيا مطمئنا.
لا تقتصر دوائر الخوف على المهمشين والفاعلين السياسيين الراغبين في ديمومة المناصب والسلطة والامتيازات ولا على الطبقات : الوسطى و«البورجوازية» التي باتت الهجرة تمثّل عند أكثرهم، الحلّ الوحيد للخروج من حالة الإحباط بل ثمّة دائرة من المخاوف يلتقي حولها الجميع سمتها الشعور بأنّ المناخ الاجتماعي السياسي بات يهدد استقرار البلاد بعد أن ارتفع منسوب العنف والكره وتضاعفت نسبة الجريمة وصارت سلامة المواطنين مهددة. وهنا بات السؤال المركزي: هل يمكن إجراء الانتخابات في سياق غير آمن يتسم بالعنف وانهيار القيم ، وفي مسار باتت فيه القوى السياسية المعضودة بفئة من الإعلاميين ورجال الأعمال تتصارع من أجل الاستحواذ على السلطة كلّفها ذلك ما كلّفها؟
«دوائر الخوف» مسلك من المسالك لمقاربة المسار الانتقالي الحالي من منظور يرصد الحالة النفسية للفئات التي من المحتمل أن تشارك في العملية الانتخابية بعد أن عسر تحليل الواقع السياسي الاجتماعي من خلال العقلنة. وليس رصد مشاعر التونسيين في هذا السياق المفصلي إلا محاولة للفهم واستشراف المستقبل في ضوء تقلّبات الذات وبحثها عن الخلاص والملجأ والمنقذ والحضن الدافئ بعد أن ضاقت الدنيا.