أو تراجع اعتبارها الاجتماعي أو الاثنين معا والجهات عن التهميش ، الفعلي او المتخيل، الذي لحقها .. الكل يشتكي من العاطل عن العمل إلى المستثمر الكبير مرورا بالفلاحين والأجراء والموظفين وأصحاب المهن الحرة ، والكل يطلب من الدولة تخفيضا في الأسعار وترفيعا في الأجور وتقليصا من الضرائب وزيادة في الامتيازات .. والكل يعتبر أن صبره قد عيل بعد طول انتظار وتسويف وأنه يريد حقوقه الآن الآن وليس غدا والتزاما مكتوبا بها..
أما الحكومات المتعاقبة ، وهذه آخرها ، فتفاوض بحسب الجهد والطاقة وتعد دوما بأكثر مما تملك وتراوح بين التسويف والتبشير وأحيانا التهديد ثم عادة ما تتنازل وبعد ذلك تتلكا أحيانا في مواعيد التنفيذ كلما كان ذلك ممكنا .
وآخر مثال على ذلك المفاوضات الحاصلة اليوم في الوظيفة العمومية التي انطلقت من حدين متباعدين إلى الأقصى : حكومة يدها ممدودة ولكنها فارغة ومركزية نقابية تطالب بتعويض كلي لنسبة التضخم يضاف إليها نسبة النمو أي بما لا يقل عن مليار ونصف من الدنانير ..ثم حصل إضراب عام وبعده اقترحت الحكومة حوالي 400 مليون دينار بما يعطينا زيادات شهرية للموظفين في الأجر الخام ما بين 40 و80 دينارا، اعتبرها الاتحاد فتاتا فارتفع المقترح الحكومي إلى 700 مليون دينار والخلاف اليوم هو في تاريخ بداية التنفيذ ..
ثم بعد ذلك على الحكومة أن تتفاوض مع صندوق النقد الدولي لإقناعه بأن هذه الزيادة ، التي تأتي ضد توصياته ، إنما كانت ضرورية للحفاظ على السلم الأهلية باعتبارها شرط إمكان التنمية وديمومتها ..
والواضح أن الأساسي بالنسبة لهذه الحكومة هو القفز على الحواجز الواحد تلو الآخر ولكن بأي هدف ومن اجل ماذا وبأي انسجام في السياسات العمومية ؟ هذا ما لا نجد له التفسير الشافي والكافي ..
سؤال بسيط : ما هي خطة الحكومة لمواجهة كل هذه المطلبيات المختلفة والمتناقضة في نفس الوقت ؟ والجواب ، على ما نعتقد ، هو ربح الوقت ومحاولة إيجاد حلول ظرفية لكل أزمة على حدة وتجنب المنزلقات الخطرة والهدف هو الاستعداد لربح الانتخابات والاعتقاد أن ما استحال فعله خلال سنوات الحكم هذه سيصبح ممكنا بعد الحصول على التفويض الشعبي المباشر ..
لا يشك احد في صعوبة حكم البلاد وفي تناقض وحدة مختلف المطلبيات المتصاعدة من كل فئة وجهة ومهنة ولكن مهمة المسؤول الحاكم هي وضع الخطة العامة والإقناع بها والسهر على تنفيذها ..
لاشك كذلك أن غلبة الخطاب الشعبوي غير المدرك لاكراهات البلاد ولطريقة اشتغال اقتصادها قد زاد في تعقيد الأمور حيث يعتقد انه بصدد تبسيطها.. فكأن إنقاذ البلاد يتطلب فقط تعويض فلان بعلان أو إعلان حالة التمرد على صندوق النقد الدولي أو تلك الكلمة السحرية التي يرددها الجميع «تغيير المنوال التنموي» فمن يحكم البلاد أو يريد أن يحكمها مطالب بالسياسات العمومية التي تغير وضع البلاد بعد عقد أو عقدين من الزمن كما هو مطالب بتوفير البضائع في الأسواق وبأن تفي الدولة بكل التزاماتها من رواتب وجرايات واستثمارات وخلاص ديونها .. الحاكم مسؤول عن الآني وعن الأجيال القادمة في ذات الوقت والحوكمة الرشيدة تقتضي بالا يكون الآني على حساب الإصلاحات متوسطة المدى وحقوق الأجيال القادمة .. ولكن كل القرارات التي أخذتها مختلف حكومات ما بعد الثورة إنما هي مسكنات مضرة لأنها ترتهن المستقبل وتحد من إمكانيات إصلاحه بصفة جذرية ونهائية ..
ولكن ما يزيد الوضع تعقيدا هو عدم تمكن الأغلبيات المتعاقبة بحكم المحاصصة الحزبية والزبونية الشخصية من اختيار أكفأ الشخصيات لقيادة دواليب الدولة فنتج عن هذه المحاباة حكومات غير قادرة على الاستباق ولا ترى الأزمات إلا حين وقوعها..
ولو جاز لنا القيام بمعدل عام لمستوى كفاءة حكومة ما لقلنا بأن الحكومة الحالية هي من اضعف الحكومات باستثناء حكومتي الترويكا التي تضافرت فيها الهواية مع غياب الكفاءة والهوس الإيديولوجي.
وفي الحقيقة لسنا ندري هل نحن أمام عزوف شامل وكلي لكفاءات البلاد العليا عن الاشتغال بالعمل الحكومي أم أن صاحب القصبة الحالي لا يريد العمل مع كفاءات تفوقه قدرة وإشعاعا أم أننا أمام الأمرين معا ..
بلاد كتونس تتعاظم فيها المطلبيات المتناقضة وتتعطل فيها اغلب محركات الاقتصاد بحاجة لا فقط إلى رؤية شاملة وصارمة للخروج من الأزمة ولكن كذلك إلى إرادة سياسية قوية مرتكزة على إدارة تقودها كفاءات عليا وذات فاعلية قصوى وقدرة على القيادة والإقناع ..
ماذا نملك من كل هذه المواصفات اليوم ؟ لا شيء يستحق الذكر أو يكاد..