في ما تعسّر إنجازه ديدننا في ذلك الاحتكام للعقل لا الانسياق وراء مشاعر الغضب والحنق والإحساس بالإحباط...فالتدبير السياسي فعل يستند إلى الكفاءة والقدرة على الإقناع والخبرة وفضائل أخرى أفاض فلاسفة اليونان في الحديث عنها. كما أنّ الحكم على الأحداث والوقائع لا يمكن أن يخضع للأبعاد الذاتية فحسب.فبين الطموح والأحلام وما يجري على أرض الواقع من أحداث محكومة بخصوصية السياق وإكراهاته مسافة ينبغي أن تُقدّر.
ولمّا كانت الإصدارات السياسية خلال هذه السنة غزيرة فإنّ الرجوع إلى كتابات عدد من الذين مارسوا السياسة في الفترة البورقيبية أو فترة بن عليّ لا غنى عنه لاستخلاص العبر والدروس، وإن كنّا واعين بأنّ هذه السرديات قابلة للتقييم والنقد إذ تبقى الكتابة السياسية في نهاية الأمر مرتبطة بفعل التذكّر، ومحكومة بزاوية شخصيّة في النظر إلى التجارب.
ولئن كان تأخر ظهور هذه الشهادات مفهوما لغياب مناخ الحريات في الفترات التاريخية المذكورة فإنّ المثير للانتباه هو إيثار أغلب الذين «قادوا» مرحلة الانتقال الديمقراطي الصمت على الكلام في مرحلة تولّي «الترويكا» الحكم ، وعزوف قيادييّ حزب النهضة عن القيام بالمراجعات وبذلك تبقى «قراءة الثورة التونسية» غير مكتملة إلاّ إذا اعتبرنا ما يصرّح به بين الحين والآخر راشد الغنوشي ولطفي زيتون والجلاصي وغيرهم حول تجربة الإسلاميين في الحكم خطابا تقييميا. ولكن هل تكفي التصريحات لفهم مدى وعي الجماعة بمسؤوليتهم التاريخية ولتجاوز الصدع الاجتماعي الحاصل؟ وطالما أنّ حزب النهضة لم يقدّم قراءته «التفكيكية» ولم يمارس النقد الذاتي فإنّ تصريحات قياداته لن تؤخذ مأخذ الجدّ ولن يكون لها أثر.
ولئن كان يعسر على «مفكّري» النهضة إلى حدّ الآن القيام بالمراجعات الفكرية العقدية، وهو أمر مفهوم، فإنّ ما يعدّ غير مقبول سياسيّا أن تمرّ تجربتهم السياسية دون تمحيص ذاتي فهل اكتفوا بالاطلاع على ما يكتب حولهم معتبرين أنّه يكفيهم ‘شرفا’ أن يكونوا موضوع اهتمام الآخرين؟ وهل اقتصر دورهم على الردّ الانفعالي الدفاعي مقدّرين أنّ الكتابة ليست جزءا من النشاط السياسيّ؟
إنّ التغاضي عن وضع التجربة السياسية، وخاصّة الترويكية على محكّ النظر من قبل أصحابها، والعزوف عن شرح الأسباب وتقديم التصوّرات التي سيّجت الفعل السياسي في مرحلة الانتقال الديمقراطي جعل عددا من الفاعلين اليوم يعيدون العمل بنفس الاستراتيجيات التي اعتمدت في الماضي فأدّت إلى استشراء العنف وخطاب الكراهية وعرقلت مسيرة تأسيس الممارسات الديمقراطية على قاعدة المواطنة. فتديين السياسة وتسييس الدين عاد إلى واجهة الأحداث، وإن زعم أصحابه الفصل بين السياسي والدعوي يكفي أن نصغي إلى بعض الخطب الجمعية هنا وهناك لنفهم أنّنا لم نتعلّم من الأخطاء السابقة حين دشنّا الحملات الانتخابية بتوظيف المساجد وجعلنا عددا من الأئمة يضطلعون بمهام غير التي انتدبوا من أجلها... يكفي أن نتابع الزعامات الدينية القديمة/الجديدة وهي تحثّ الأئمة والخطباء على «التعبئة» والاستنفار لندرك أنّ «الخادمي» وزمرته ماضون في «أجندتهم» وكأنّ ما فعلوه بالأمس قد محي من ذاكرة التونسيين... يكفي أن نتابع خطابا بدا فيه التباس المعجم الديني (الفتوى، الأمر بالمعروف، الحسبة، الحرام، المقدسات...) بالمعجم الحقوقي (المجتمع المدني ، الناشطون، الحقوق...) في أذهان المشايخ/الناشطين/الأساتذة حتى ننتبه إلى أنّ غياب المراجعات واستخلاص الدروس سيكون له تكلفة خطيرة.
يصرّ بعضهم على إعادة العمل بالاستراتيجيات القديمة التي أوصلتهم إلى الحكم ظّنا منهم أنّ ما اختُبرت نجاعته في الماضي كفيل بأن يحقّق الغلبة ولكن هيهات التاريخ لا يعيد نفسه وما حدث في بداية الانتقال الديمقراطي كان مظروفا بسياق تاريخي اجتماعي غير السياق الذي نمرّ به اليوم. فهلاّ اعتبرتم وتحرّرتم من «شيطنة» المختلف عنكم، وتخلّصتم من ثقل الأزمنة الماضية ونظرتم إلى الأمام!