طرأت عليه منذ ما لا يقل عن العقدين من الزمن ..
ما كان ، ومازال ، يسمى عندنا وعند غيرنا بالإسلام المعتدل إنما كان شعارا دعائيا سياسيا يغطي تحولا حقيقيا عند القائمين على كل مكونات التدين الرسمي والشعبي إذ تسللت إليه عبر وسائل دعائية ضخمة وأموال وإمكانيات هامة السلفية الوهابية وآلياتها العقائدية والفكرية القائمة على القراءة الحرفية النصوصية وعلى التشدد في التكفير وتبديع المخالف والقول بأن مظاهر الشرك أضحت عامة في المجتمع وانه لابد من مقاومتها بالرجوع إلى القرآن والسنة بفهمها على طريقة «السلف الصالح» ..
لأسباب يطول شرحها وقد نأتي عليها في مناسبات قادمة ما نسميه نحن بالإسلام التونسي الزيتوني المعتدل ذي الخلفية الإصلاحية إنما هو بناء بعدي لا يمت للواقع التاريخي بصلة كبيرة ثم إن المدرسة الزيتونية قد انقضت بانقضاء كل مكوناتها التربوية والقضائية والسوسيولوجية فأصبح لدينا منذ أكثر من نصف قرن تعليم «عصري» جامعي يعتني بالشأن الديني فقط لا غير .. وإن انخرط العديد من الزيتونيين في الحركة الإصلاحية على امتداد قرن كامل من أواسط القرن التاسع عشر إلى أواسط القرن العشرين ولكن المؤسسة الزيتونية ، كمؤسسة ، وقفت دوما ضد الإصلاح وفي صف الحكام ضد المجددين ..
ولكن حتى هذا التدين التقليدي المالكي فقها والأشعري مذهبا والممزوج بالطرقية وبنوع من الذائقة الارستقراطية عند طبقة كبار العلماء قد ولى واندثر عندما تم غلق التعليم الزيتوني وانتهت معه الأدوار الاجتماعية والإدارية والتأطيرية التي كان يقوم بها خريجو الزيتونة ..
أما ما يسمى بالتعليم «العصري» والذي تضطلع به الجامعة الزيتونية فنجد مزيجا من التيارات والمدارس والمحاولات ولكنه لم يصمد كثيرا أمام الموجة الوهابية الصاعدة في العالم العربي منذ الصدمة البترولية الأولى في أواسط السبعينات ، وهبنة أضحت واضحة وقوية خاصة بعد الثورة إذ انتفت العوائق السياسية التي كانت تحد منها شيئا ما .. والنتيجة هي ان ما نسميه بالإسلام التونسي الزيتوني المعتدل أضحى اليوم مرتهنا بين مختلف تيارات الإسلام السياسي من الاخواني النهضوي إلى السلفي المتشدد مع جذع مشترك عند الغالبية الساحقة وهو التسلّف (نسبة إلى السلفية) بالمعنى العقائدي للكلمة أي القراءة الحرفية للنصوص الدينية واقتصار الاجتهاد على الجزئيات الفقهية التقنية ، والدليل على ذلك أننا لا نجد فكرة وحيدة مجددة عند كل هؤلاء لا تونسيا ولا عربيا بل نجد مجرد تكرار للمقولات الفقهية القديمة ، فنحن أمام حملة أسفار صفراء أنتجها السلفيون القدامى فقط لا غير أما «العلم» الذي يريدون نسبته إليهم فلا شيء منه أو يكاد ، فالعلم نقد مستمر للأسس والمبادئ التي قامت عليها المعرفة البشرية وعند هؤلاء النقد مفهوم مغيّب تماما من قاموسهم ..
ولكننا في تونس ، على عكس العديد من البلاد العربية الأخرى ، أمام سلفية مخاتلة ومراوغة لا تجرؤ في عمومها على مواجهة المجتمع بكل عقائدها بل تشدد بالأساس على ما تعتبره يحظى بمقبولية خارج الدوائر السلفية الضيقة وآخر هذه المعارك الخلفية للسلفية المخاتلة هي المساواة في الميراث باعتبارها ضربا للشريعة وهدما للعائلة ولقيمها ومعاداة للهوية العربية الإسلامية .. وهنا نجد طيفا من الجمعيات وخاصة من أساتذة الجامعة الزيتونية تحت مسمى «علماء الزيتونة» ينشطون صباحا مساء لإقناع التونسيين بأن المساواة الاختيارية في الميراث بين الذكر والأنثى إنما هي خروج صريح عن الدين ومعاداة لله ورسوله بينما لا يجرؤ –إلى اليوم– أي واحد من هؤلاء على القول بأن عدم قطع يد السارق أو جلد الزاني إنما هو محاربة لله ولرسوله ولكتابه..
السلفية المخاتلة تريد ان تستفيد من الديمقراطية ومن الهامش الضخم لحرية التعبير التي توفرها لضربها في الصميم ولنقضها من أساسها ،فالسلفية لا تؤمن بان الحكم للشعب وبان القانون مدني لا شرعي وبان هذا يفترض أن يتحاكم الناس لاجتهادات بشرية لا لأحكام الشريعة كما يضعها «علماء» نصبوا أنفسهم ناطقين باسمها .. بل ويذهبون إلى حد التكفير المبطن الممنوع دستورا وقانونا ولكنهم لا ينطقون بكلمة «كفر» بل بمصطلحات رديفة لها كالخروج عن الإسلام ومعاداة الدين وآخر هذه التقليعات «فتوى» أصدرها احدهم بتحريم التصويت لكل نائب او سياسي صادق على مشروع قانون المساواة في الميراث .. نعم هكذا لا غير !!
فتحت مسمى نشاط جمعياتي وتحت مسمى « حرية الضمير» يسمح بعضهم لأنفسهم بالتكفير المبطن للناس وبالتلويح بحرب هوية جديدة في البلاد..
نحن لا نطالب السلفيين المخاتلين بأي شيء ، بل فقط بضرورة احترام قانون البلاد ودستورها وان يعلموا نهائيا بأن التكفير وأيا كانت الأساليب البلاغية التي يعبر فيها عن نفسه ليس رأيا بل جريمة في تونس يعاقب عليها القانون ..
وما دام التهديد المبطن قد طال كل النواب بلا استثناء فنحن ننتظر منهم جميعا وبلا استثناء ردة فعل قوية تؤكد على قواعد العيش المشترك وعلى ان السلفية المخاتلة تغرد خارج سرب البلاد..أليس كذلك سيداتي وسادتي نواب حركة النهضة أم لكم رأي آخر ؟ !