يوسف الشاهد الذي أصبح منذ نصف سنة رئيسا لأغلبية برلمانية جديدة دون أن يتحكم في كتلتها الأهم يستهل سنته الأخيرة في هذه العهدة الانتخابية وهو بين تحديين رئيسيين : إدارة البلاد وخاصة أزماتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية من جهة والاستعداد لحلم مواصلة مباشرة السلطة ولكن بتفويض شعبي مباشر من جهة أخرى..
الشهية تأتي مع الأكل كما يقول المثل الفرنسي وشهية السلطة أتت ليوسف الشاهد مند أن بدأ في ممارستها من أعلى موقع في السلطة التنفيذية ..
رئيس حكومة سنه 41 سنة وتفتحت شهيته للعمل السياسي بعيد الثورة لا يمكنه أن يقنع فقط بهذا التكليف الذي حصل في أوت 2016 وان يتعامل معه كسلفه الحبيب الصيد أي ممارسة تكنوقراطية لأعلى وظيفة في الدولة دون أي طموح سياسي يتجاوزها ..
فالمشروع السياسي ليوسف الشاهد حاضر منذ البداية ، وتجلى ذلك في اختيار بعض المقربين منه في حكومته وتصريحه بأن المطلوب اليوم هو خلق جيل سياسي جديد..
لاشك ان بين طموح البدايات المبهم الى حد كبير والمشروع السياسي الذي بات الاعلان الرسمي عنه وشيكا مسافة كبيرة ومنعرجات كان أهمها على الإطلاق القطيعة بين الشاهد وحزبه ثم بينه وبين رئيس الجمهورية فقلبه للتحالفات التي ميزت السنوات الثلاث الأولى لهذه العهدة فاستعداده لمحاولة وراثة القاعدة الانتخابية الندائية وتعويض النداء في المعادلة السياسية القادمة ..
ولكن ما بين ما يخطط له وما ينجز هنالك مسافة لا يعلم تقديرها اليوم أحد..
ولكن كيف يمكن التوفيق بين مهمتين أساسيتين تظهران متناقضتين: التفرغ الكلي للقيام بأعباء تسيير الدولة والاستعداد لبعث مشروع سياسي جديد يهدف صاحبه من خلاله إلى قلب التوازنات الحزبية والبرلمانية رأسا على عقب ؟
يبدو أن الخطة التي اتضحت تدريجيا في ذهن رئيس الحكومة تقوم على دحض هذا التناقض الظاهر بل والتأسيس على ضده تماما ولكن بصيغة تغير بصفة هامة من السؤال المطروح ..
الفكرة التي يبدو أنها في طريقها للاستقرار النهائي عند صاحب القصبة هي التالية : الاستمرار في الحكم إلى حد الانتخابات القادمة ، أو قبلها بقليل، هو من احد شروط النجاح الرئيسية للمشروع السياسي ولكن السؤال الذي لم يجب بعد عنه يوسف الشاهد ومناصروه هو هل أن في بقاء يوسف الشاهد على رأس الحكومة إلى الأمتار الأخيرة قبل الانتخابات مصلحة لتونس أم لا ؟ وهل بإمكان يوسف الشاهد أن «يوفق» بين أعباء الدولة وطموح السلطة وان يقنع بذلك أهم الأطراف السياسية والاجتماعية في البلاد ؟
والسؤال المخفي هو التالي : هل أن الاستهداف المتبادل بين الشاهد وخصومه وخاصة بينه وبين رئيس الدولة سيكون مقبولا سياسيا ومتحكما فيه أم انه سيخرج عن السيطرة ويصبح مهددا للانتقال الديمقراطي في البلاد ؟
أسئلة معقدة بتعقد المشهد السياسي المتقلب في البلاد.. ثم في السياسة ، كما في كرة القدم ، العبرة بالنتائج لا بجمالية الأداء وإن كنا نحبذ دوما الجمع بين الاثنين..
رهان يوسف الشاهد أضحى واضحا إلى حدّ بعيد ، إنه يقدم نفسه اليوم كالوريث الشرعي لمشروع نداء 2012، أي الإطار الأمثل لتجمع الروافد الأربعة التي نظّر لها الباجي قائد السبسي آنذاك، الدستوريين والنقابيين واليساريين (وسط اليسار تحديدا) والمستقلين ، فمشروع الشاهد عند أصحابه هو الوريث والمنقذ في ذات الوقت للنداء التاريخي من وحل «التوريث الديمقراطي» ولكن يخطئ من يعتقد أن القاعدة الانتخابية الندائية هي «لقمة» سائغة لهذا المشروع الجديد، فالنداء مازال موجودا وقيادته الحالية لم ترم المنديل وخاصة بعد ان قرر رئيس الدولة ومؤسس النداء ان يتزعمه من جديد كقائد حرب لا كرئيس جهاز..
الواضح اليوم ان كل خصوم الشاهد من أحزاب ومنظمات اجتماعية سوف تتصيد كل أخطائه او مشاكله او إخفاقاته لتربطها مباشرة بطموحاته السياسية وانه في سبيلها مستعد للتضحية بكل شيء بدءا بالمبادئ والقيم ومنها التحالف اللامشروط مع النهضة ..
وبغض النظر عن صحة هذه الاتهامات أو زيفها ولكن ما لا نقاش فيه هو ان الطموح السياسي للشاهد ورغبته في المواصلة في الحكم من بوابة الانتخابات سيؤجج الصراعات وسيجعل كل إجراء حكومي مهما كان بسيطا مجالا للمزايدات من جماعة المعارضة والموالاة على حد سواء ..
المنطق السياسي السليم كان يفرض على يوسف الشاهد أن يتنحى عن مسؤولية الحكم لأنه لم يصل إليها عبر الانتخابات بل بفضل تعيينه فيها وان يعمل لفائدة مشروعه السياسي وان يقنع به عامة التونسيين دون أن تكون هنالك شبهة استعمال وسائل الدولة إما مباشرة أو حتى بصفة غير مباشرة في ذلك ..
صحيح ان لا شيء يمنع دستوريا يوسف الشاهد من البقاء في السلطة إلى مشارف الانتخابات ولكن السياسة ليست فقط قوانين وشكليات إجرائية بل روح سارية تعكس فلسفة الدستور والقانون والتي تعني هنا أن التحول في التموقع السياسي يتطلب تغييرا في الموقع كذلك ..
ما نخشاه هو أن يحتد الصراع خلال هذه الأسابيع والأشهر القادمة إلى درجة يعسر معها تصور ما هو صالح للبلاد من الإجراءات والقرارات الحكومية وما هو مجعول لتعبيد طرق السلطة من جديد كما أننا لا نعتقد انه بإمكان كل الفرقاء اليوم التوافق على مدونة سلوك دنيا بل سنشهد معركة تكون فيها كل اللكمات والهجومات مباحة ولا ترقب في المنافس إلاّ ولا ذمة ..
ولكن مع كل أسبوع يمر يصبح تغيير الحكومة الحالية مسالة لا معنى لها وضررها على البلاد اكبر من نفعها ، ولكن هذا يستوجب ضرورة أن يحصل توافق واسع حول أفضل طريقة لحوكمة هذه الأشهر المفصلية ، حوكمة لا يشرك فيها النداء الحالي فقط بل وكذلك أهم أطياف المعارضة لا للاتفاق على إجراءات اقتصادية أو اجتماعية بعينها بل لوضع القواعد الدنيا للتعامل السياسي خلال هذه الفترة القادمة ..
دعوة نرجو أن تكون لها أذان صاغية ، رغم يقيننا بان أطراف الصراع الأساسية تتحفز كلها للانتصار بالضربة القاضية و بأية طريقة كانت ..