بين الاستئصال والعزل وتحسين شروط التفاوض: ماذا يريد الباجي قائد السبسي من حركة النهضة ؟

سؤال تتداوله كل تونس السياسية هذه الأسابيع الفارطة : ما هي إستراتيجية الباجي قائد السبسي

في التعامل مع حركة النهضة : الاستئصال أم العزل أم تحسين شروط التفاوض ؟
والسؤال ملح لأن الإشارات والرسائل القادمة من قصر قرطاج ترعى وتنمي الغموض وتفتح باب التأويل على مصراعيه ..

مسألة وحيدة واضحة :التوافق القديم بين الشيخين المنطلق في أواسط اوت 2013 قد انتهى مع بداية سبتمبر الماضي ، ولكن بم سيعوض ؟ تبني رئيس الدولة القوي لمسألة الجهاز السري للحركة الإسلامية التي أثارتها هيئة الدفاع عن الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي يوحي بأن الرئيس قد اخذ قرارا أدناه هو العزل السياسي لحركة النهضة وأقصاه استئصالها لاسيما إن ثبت تورطها في إعادة إحياء الجهاز الخاص الذي كان ضالعا في المحاولات الانقلابية في نهايات حكم بورقيبة وبدايات بن علي ..

والأرجح في إستراتيجية رئيس الدولة هو العزل السياسي لحركة النهضة، إذ يقتضي الاستئصال توفر جملة من الشروط يدرك رئيس الدولة صعوبة أو حتى استحالة توفرها ..

وإستراتيجية العزل تعني الاستهداف المركز لحركة النهضة في مسائل مختلفة بدءا من قضية الجهاز السري إلى مسألة تعويضات صندوق الكرامة وغدا مشروع القانون في المساواة في الميراث وكل ما من شأنه أن يبين أن حركة النهضة حركة اسلاموية غير مدنية لها أجنحة عنيفة وتتعامل مع الدولة بمنطق الغنيمة، وبالتالي لا يجوز التحالف معها وكل من يفعل ذلك – اي يوسف الشاهد وجماعته – إنما هم يبيّضون الإسلام السياسي الرجعي والعنيف والمتكالب على ما بقي في البلاد من إمكانيات مالية ..

بالطبع قد يدهش المرء من هذه الصورة خاصة وان التوافق بين الشيخين قد استمر على امتداد خمس سنوات كاملة فما الذي حصل اليوم ليتغير كل شيء رأسا على عقب ؟
الباجي قائد السبسي سياسي براجماتي وهو غير مسكون البتة بهواجس عقائدية أو حتى فكرية بالمعنى القوي للكلمة دون أن ينفي ذلك أن يكون للرجل قيم يتحرك على أساسها ..

الواضح أن نهاية التوافق كانت نتيجة الخلاف البيّن بين رئيس الدولة وحركة النهضة حول بقاء حكومة الشاهد من عدمه .. فالخلاف كان سياسيا فقط ، بل تكتيكيا أي حول توزيع المناصب والمسؤوليات لا حول السياسات وان هذا الخلاف لم يمس مطلقا الأفكار والقيم ..
ولقد خرج الباجي قائد السبسي من هذا الصراع منهزما منكسرا وظهر لعموم التونسيين وكأنه انتهى سياسيا لأنه انتصر لنجله على حساب منطق الدولة وخسر بذلك حليفه الداخلي الأساسي حركة النهضة وكذلك احترام وتقدير جل شركاء تونس في الخارج..

ولكن الباجي قائد السبسي داهية سياسي ، ودهاؤه لا يضاهى اليوم في تونس إذ تمكن سريعا من استعادة أنفاسه واستفاد ايما استفادة من الندوة الصحفية لهيئة الدفاع عن الشهيدين في 2 أكتوبر الماضي حيث تم اتهام حركة النهضة بتكوين جهاز خاص ضالع بصفة تكاد تكون مباشرة في الاغتيالات السياسية، وهذا أعطى عمقا جديدا للصراع بين رئيس الدولة وحركة النهضة إذ تبنى بوضوح مطلب هيئة الدفاع بضرورة التقصي القضائي الجدي في هذا الموضوع، وهكذا غادر رئيس الدولة خانة المدافع المتراجع والمترنح الى المهاجم الذي يسدد اللكمات الموجعة الواحدة تلو الأخرى والهدف الأساسي من وراء كل ذلك ليس وضع حركة النهضة في الزاوية فقط بل البرهنة بأنه هو المعارض الجدي الوحيد للحركة الإسلامية القادر على الفوز في الانتخابات القادمة وأن منافسيه، في ما يسمى بالعائلة الوسطية وعلى رأسهم يوسف الشاهد ، لا يستطيعون القيام بهذا الدور لأن وجودهم السياسي مرتهن بالتحالف مع الحركة الإسلامية..

ولكن هل يريد الباجي قائد السبسي من وراء هذه الإستراتيجية استئصال حركة النهضة كما يتصور ذلك البعض ؟

نكاد نجزم بأن فكرة استئصال الحركة الإسلامية أي إلغائها من المجال السياسي ، وإن تخامر بعض المقربين من رئيس الدولة إلا أنها غائبة تماما من ذهن داهية قرطاج لا لكونه متشبعا بالروح الديمقراطية بل لأن حسابات السياسة العقلانية الباردة تجعل من هذه الفرضية غباء سياسيا ومغامرة خسائرها الأكيدة أكبر بكثير من فوائدها المحتملة ..
بل ونذهب أبعد من ذلك ونعتقد أن فكرة حكم البلاد دون حركة النهضة وإن كانت فرضية سياسية معقولة إلا أنها بدورها لا تخامر ذهن رئيس الدولة بصفة جدية خاصة ما لم يطرأ تغيير جذري في القانون الانتخابي .. فالباجي قائد السبسي يدرك أكثر من غيره بان الاستقطاب الثنائي بين النهضة وبين حزب يمثل «العائلة» الوسطية التونسية سيبقى مهيكلا للحياة السياسية على المدى المتوسط وأن وضع حركة النهضة في المعارضة مكلف سياسيا وقد لا يكون ممكنا انتخابيا ..

لو حافظنا على القانون الانتخابي الحالي لن يتمكن النداء ، أو من يحل محله، من الحكم لوحده إلا إذا ما تحصل النداء على %50 من الأصوات وهذا مستحيل.. ثم حتى لو اعتمدنا عتبة %5 فلن يتحصل الحزب الأول على أغلبية المقاعد إلا في حالة تجاوز %40 من الأصوات .. يعني حتى لو افترضنا بأن حزب الباجي قائد السبسي قادر على الحصول على المرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية - وهذا ليس بالأكيد مطلقا – فإنه سيكون مضطرا لعقد تحالفات إما مع الجبهة الشعبية أو مع التيار الديمقراطي هذا لو أراد تجنب التحالف مع حركة النهضة .. والثابت لدينا ان الباجي قائد السبسي يحبذ التحالف الحكومي مع النهضة على الإمكانيات الأخرى كالجبهة والتيار والحراك وحركة الشعب ..
إذن ما المقصود من هذا الهجوم المكثف على حركة النهضة ما دام الحكم معها بعد 2019 هو الأقرب سياسيا وانتخابيا ؟
المقصود من هذه الإستراتيجية الهجومية تحقيق هدفين اثنين :

• القضاء على إمكانية بروز قوة وسطية قادرة على منافسة النداء وهزمه أي بوضوح القضاء على الفضاء السياسي الممكن لحزب يوسف الشاهد بإظهاره في صيغة الحزب التابع لحركة النهضة وغير القادر على منازلتها والتصدي لها ..

• تحسين شروط التفاوض مع الحركة الإسلامية بتجنب هزيمة انتخابية قاسية بداية ثم إقامة شراكة ترجع للنداء الأولوية في المعادلة السياسية..

هذه هي الغاية القصوى التي تهدف إليها خطة رئيس الدولة : حشر حركة النهضة في الزاوية للعودة إلى مركز الحياة السياسية ولوأد مشروع يوسف الشاهد في المهد ثم تحسين شروط التفاوض والحكم مجددا مع حركة النهضة إن نجح المخطط الرئاسي ونجح نداء تونس في تأكيد الاستقطاب الثنائي مع حركة النهضة حتى لو كان في المرتبة الثانية ..
ولكن أمام هذا المخطط عقبات كثيرة أهمها يتمثل في الطريقة التي سيتقبل بها ناخبو النداء في 2014 هذه التقلبات المتعاقبة في علاقة ساكن قرطاج بحركة النهضة ثم وأساسا في مدى بقاء الحد الأدنى من الجاذبية الانتخابية للنداء في في خريف السنة القادمة خاصة وان حبك الدسائس والمناورات لا يمكن أن يكون فقط حكرا عليها ..

وأولى هذه العقبات ستكون قضية الأمين العام للنداء سليم الرياحي الغائب عن ارض الوطن مباشرة بعد رفعه لشكاية لدى المحكمة العسكرية بخصوص تآمر رئيس الحكومة والمدير العام للأمن الرئاسي على أمن الدولة واعدادهما ، مع آخرين ، لمحاولة انقلابية فالقضاء العسكري قد قرر يوم أمس حفظ القضية نظرا لعدم حضور الشاكي في مناسبتين كما أشار إلى ان لهذا الحفظ استتباعات قانونية ، والملف الثاني هو العفو الرئاسي الخاص الذي شمل القيادي الندائي برهان بسيس يوم أمس بمناسبة اليوم العالمي لحقوق الإنسان ..
لقد أراد رئيس الدولة وحزبه فتح حرب قضائية على خصومهم .. ولكن هذه الحرب قد تنقلب على أصحابها وقد تبين أن الغائب الأكبر في كل هذه «الحروب» و«المناورات» هي تونس ومصالحها الأساسية .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115