ونحن كذلك فإذا بكل نخب البلاد منجذبة لهذه الصراعات إما تموقعا أو انخراطا مباشرا أو تنديدا أو اشمئزازا أو انصرافا كليا ولكن هنالك مسائل جوهرية في بلادنا بصدد التلاشي أو حتى الاندثار ..
هنالك أمل شباب تونس وكهولها وحتى شيوخها ويأسهم من عيش لائق وكريم تحت سماء بلادهم .
ولكن الأخطر هو وأد الحلم الممكن والإصلاح الضروري لليوم وغدا والمتمثل في هذا الانتحار البطيء للمدرسة العمومية أي لهذه الحاضنة الأساسية للمواطنة وللجمهورية وللتنمية وللرفاه المشترك ..
يخطئ من يعتقد أن هذا الانتحار البطيء يعود لسنوات الثورة أو حتى للسنوات التي سبقتها ، انه انتحار يعود إلى عقود طويلة رغم علامات النجاح البادية آنذاك على منظوماتنا التربوية ..
كل الدراسات والأرقام تبين أن المدرسة التونسية، حتى زمن فتوتها في ستينات وسبعينات القرن الماضي، كانت حاملة للأمراض التي تنخرها اليوم : تفوق دون عدالة ونخبوية تقصي العدد الأكبر من أبنائنا من مدارج العلم والمعرفة ،ولكن كانت المدرسة العمومية توفر للناجحين فيها سبل التفوق العلمي والمهني..
ولكن ومنذ عقدين من الزمن على الأقل لم تعد المدرسة العمومية توفر لجل ناجحيها والمتحصلين فيها على شهائد جامعية هذا التفوق العلمي والنجاح المهني بل أصبح لدينا شيء فريد من نوعه : المتحصل على شهادة جامعية معرض للبطالة ثلاث مرات أكثر من الذي لم يتحصل عليها بينما نجد العكس تماما في العالم أجمع ..
تلك هي إحدى ملامح الأزمة العميقة للمدرسة التونسية : سنوات طويلة من المزاولة فيها لا تعطي لأطفالنا لا المهارات الكافية ولا تؤهلهم لحياة عملية ناجحة إلا بالنسبة لقلة قليلة فعندنا أقل من %1 من المتفوقين بالمقاييس الدولية وحوالي %4 من المتميزين وحوالي %60 من المستوى الضعيف ..
ذلك هو منتوج مدرستنا اليوم وبدل أن نسعى إلى الإصلاح الفعلي والحقيقي والذي يضع مكتسبات التلميذ الأساسية في محور الاهتمام عمقنا من أزمتها وجعلناها تدخل في نوع من الموت السريري دون أن ينتبه أحد لهذه الكارثة المحدقة بها ..
منذ سنوات قليلة تداعت كل القوى لوأد كل عملية إصلاح حقيقية فعلية .. فتحت مسميات تبدو جميلة «الأشكال النضالية الراقية» لتحقيق مزيد من المكاسب للمربين نحن بصدد وأد آخر أمل لإنعاش المدرسة العمومية بدعوى إنقاذها..
من حق النقابات الدفاع عن منظوريها لتحسين الشروط المادية والمعنوية لممارسة مهنة ما ولكن ثقافة الإضراب عن الامتحانات والإضراب الإداري التي ترسخت في نقابات التعليم هي بصدد القتل النهائي للمدرسة العمومية وذلك بغض النظر عن الدوافع والأهداف ، وهنا لا نتحدث فقط عن إحساس الأولياء والتلاميذ بأنهم أصبحوا رهائن في معركة تتجاوزهم بل نتحدث عن ظاهرة العزوف المتعاظمة عن المدرسة العمومية وإلى ما يشعر به جلّ المدرسين أنفسهم ..
نشاهد تحديدا منذ سنة 2010 هجرة متعاظمة من الأولياء إلى المدارس الخاصة ولاسيما في المرحلة الابتدائية ، هجرة لا تفسر فقط بظروف الحياة العصرية للأولياء وخاصة للأم بل بالخوف المتنامي من المدرسة العمومية.
في سنة 2010 كانت نسبة التلاميذ في المدارس الابتدائية الخاصة %2 من مجموع التلاميذ أما في السنة الفارطة فقد قاربت هذه النسبة %7 أي أنها تضاعفت ثلاث مرات ونصف خلال 7 سنوات فقط. ولقد بلغ عدد المدارس الابتدائية الخاصة في هذه السنة حوالي 600 مدرسة منها 230 في تونس الكبرى فقط اي نحن بصدد تجاوز نسبة %10 من مجموع التلاميذ
في هذه الولايات الأربع والنسبة متفاقمة رغم الكلفة المادية الباهظة خاصة بالنسبة للطبقات الوسطى ..
سوف ننتبه بعد سنوات قليلة فقط بأن المدرسة العمومية تندثر وهي التي كانت الرابط الأساسي للمواطنة وللعلم وللقيم لم تعد تؤدي هذا الدور المركزي وأنها لم تعد تحظى بثقة المجتمع الا من كان مكرها على ذلك وأن إفراغها من جزء من أبناء تونس سيسهم في إضعافها وفي تفقيرها وفي جعلها تتهمش أكثر فأكثر ..
لا يهم كثيرا من سينتصر في هذه المعركة الجديدة المتجددة بين الجامعة العامة للتعليم الثانوي ووزارة التربية فنحن نعلم ومنذ الآن ان هنالك خاسرا اكبر : المدرسة العمومية ..