من عمل ومثابرة وجهد من اجل تقدم تونس وازدهار شعبها ولكن لابد من الإقرار والافتخار بأن بلادنا قطعت خطوات عملاقة في اتجاه الديمقراطية الكاملة وإن كان ذلك بتعثرات وارتدادات ..
يوم أمس صادق مجلس الوزراء على المبادرة التشريعية التي تقدم بها رئيس الدولة حول المساواة في الميراث بين النساء والرجال في مستويات القرابة الأساسية الأربعة : البنت والابن والزوجة والزوج والأم والأب والأخت والأخ مع ترك الحرية للمورث في قائم حياته أن يختار النظام الحالي (لا النظام الشرعي كما يردده البعض) والقائم على قاعدة «للذكر مثل حظ الأنثيين» .
فما عجز بورقيبة عن فعله وهو من هو وقد كان مالكا للسلطات المعنوية والرمزية والمادية شبه المطلقة ستتمكن تونس بفضل ثورتها وبفضل أيضا مبادرة رئيس الدولة من فعله محققة بذلك تقدما فكريا وحضاريا واجتماعيا وقانونيا غير مسبوق بالمرة في منطقتنا العربية ..
صحيح أن بعض النخب الاسلاموية والمحافظة غير موافقة على هذا التمشي وكذلك جزء من الرأي العام ونرجّح أن يحصل نقاش عميق وحاد أحيانا حول المساواة في الميراث وهذا في صميم التمشي الديمقراطي ما دام سلميا ومبتعدا عن تجريح الأشخاص والتخوين والتكفير ولكن الواضح أن تونس اليوم بنخبها ومجتمعها المدني ومواطنيها قادرة على رفع هذا التحدي وانجاز المزيد من الحقوق والحريات لمواطنيها ولو رفض بعضنا ذلك بحجج دينية أو اجتماعية ..
إنها تونس الديمقراطية كما كنا نحلم بها وكما نريدها اليوم ولأجيالنا القادمة كذلك ..
بعيدا عن هذا ستستقبل تونس في بداية الأسبوع القادم، وبطلب منه ، ولي العهد السعودي محمد بن سلمان المثير للجدل والمتسبب الأول في استمرار تدمير اليمن والمتهم خاصة باحتجاز رئيس حكومة لبنان والذي تحوم حوله شبهات قوية في ضلوعه في الجريمة النكراء التي هزت العالم لبشاعتها وفظاعتها ولا إنسانيتها ألا وهي قتل الصحفي جمال خاشقجي وتقطيع جسده وهو في قنصلية بلاده في تركيا ..
لنكن نزهاء : هل كان بإمكان السلط التونسية رفض استقبال ولي العهد السعودي؟ لا نعتقد ، وهل يعني استقباله أيضا دخول تونس في سياسة المحاور الإقليمية ؟ لا نعتقد كذلك اذ ورغم الخطأ الكبير لديبلوماسيتنا يوم سارت على نهج السعودية وغيرها في اعتبار تنظيم حزب الله تنظيما إرهابيا إلا أنها تمكنت بعد ذلك من المسك بالعصا من الوسط ورفضت الانخراط في الانقسام الخليجي وفي السياسة الفعلية للمحاور الإقليمية.
تونس دولة صغيرة ذات إمكانيات محدودة ومصلحتها الجوهرية تكمن في مسالمتها للجميع وفي عدم الانخراط أو معاداة أي محور إقليمي أو دولي.. قد يغضب بعضهم من ديبلوماسية «مائعة» كهذه ولكن هذه هي مصلحة بلادنا وهذا هو جوهر الديبلوماسية التونسية التي وضع أسسها الزعيم الراحل بورقيبة ..
تونس لا تنخرط في صراعات سياسية أو عقائدية أو عسكرية مع أو ضد احد .. ولكن هل يعني هذا ألا تعبر تونس في مواقفها الديبلوماسية عن القيم التي جاءت بها الثورة ؟ ونقصد هنا مناصرة الديمقراطية والحريات والتنديد بكل أشكال انتهاك حقوق الإنسان ؟ بالتأكيد لا ولكن على السلط العمومية أن تجد التوازن المطلوب بين المصالح الجوهرية للبلاد والقيم الديمقراطية التي تؤسس لتونس اليوم دون أن ندعي إعطاء الدروس لأحد أو أن نتوهم أننا في موقع قوة يغنينا عن الحذر والاعتدال في التعبير عن مواقفنا المبدئية ..
ولكن تونس اليوم ليست فقط تونس الرسمية بل هي أيضا تونس الشعبية في تنوعها وتعددها.. ويحق لتونس الشعبية هذه أن تعبر عن رأيها بكل قوة أمام هذه الزيارة لشخصية ليست بالتأكيد صديقة لا لحقوق الإنسان ولا لحقوق الشعوب ولا للسلام في العالم ولا لاحترام الحرمة الجسدية للناس ..
في تونس الشعبية هنالك أحزاب وشخصيات وقوى تصطف وراء هواها الإيديولوجي فتسبح بحمد قطر أو تركيا أو الإمارات أو السعودية أو فرنسا أو أمريكا ولا تنتقد إلا خصوم أصدقائها فقط لا غير .. فتغفر لأصدقائها كل ذنب مهما عظم وتتصيد سقطات أعدائها مهما صغرت ..
هذا جزء من تونس الشعبية ..
ولكن هنالك أيضا قوى وأحزاب ومنظمات وجمعيات وشخصيات في تونس الشعبية تنطق وتتحرك وفق القيم الجوهرية الديمقراطية للثورة التونسية وتندد بكل ظلم واضطهاد ضد حقوق الإنسان والشعوب أيا كان مقترفوه وهؤلاء عبروا بقوة وبوضوح عن رفضهم واستنكارهم لمجيء ولي العهد السعودي لتونس لا لعداوة مع الشعب السعودي او حتى مع النظام السعودي بإجمال بل لرفضهم ما بدا واضحا من غطرسة وانتهاك صارخ وفاضح لأبسط حقوق الإنسان خارج المملكة وداخلها كما أن تونس الشعبية هذه تشاطر كل عقلاء العالم بان الجريمة البشعة النكراء التي اقترفت في حق المغفور له الصحفي السعودي جمال خاشقجي لا يمكن أن تصدر عن مستويات دنيا أو وسطى في النظام السعودي ولا يمكن لولي العهد محمد بن سلمان ألا يكون قد علم بها هذا إن لم يكن هو مدبرها وفاعلها الأصلي..
نحن نرى في رفض تونس الشعبية الديمقراطية لمقدم محمد بن سلمان رسالة تضامنية قوية مع الشعب السعودي ومع عشرات الآلاف ، إن لم نقل مئات الآلاف ، من الرافضين داخل السعودية ، لهذه الانتهاكات الفاضحة ومن المناضلين الناشطين او الصامتين من اجل احترام الحقوق والحريات في بلد الحرمين الشريفين .. فالشعب السعودي جدير ككل شعوب العالم بديمقراطية فعلية تحترم فيها الحقوق وتصان فيها الحريات ..
فالسعوديون إخوتنا ولا نعتقد أن ولي العهد الحالي يمثلهم أو أنه حامل لأحلامهم وطموحاتهم..
فرفض هذه الزيارة من تونس الشعبية الديمقراطية إنما هو أولا وقبل كل شيء رسالة محبة وتضامن مع كل السعوديات والسعوديين التواقات والتواقين لاحترام حقوقهم وصونها ..
تلك هي تونس اليوم ولذلك نفخر بها دون أن نباهي بها الأمم..
بين مصادقة مجلس الوزراء على المبادرة التشريعية الرئاسية للمساواة في الميراث واستقبال ولي العهد السعودي: تونس الديمقراطية والرسمية والشعبية
- بقلم زياد كريشان
- 13:04 24/11/2018
- 2228 عدد المشاهدات
يمكن أن نوجه اللوم لبلادنا وحكامنا في مسائل كثيرة ويمكن أن ننقد أنفسنا اشد النقد على ما فرطنا فيه