على هامش الإضراب العام في الوظيفة العمومية ورفض الحكومة الزيادة في الأجور: هل يمكن لتونس أن تستغني عن صندوق النقد الدولي ؟

اليوم يشنّ الاتحاد العام التونسي للشغل لأول مرة في تاريخه إضرابا عاما في الوظيفة العمومية بسبب رفض الحكومة

التفاوض الفعلي في الزيادة في الأجور. ويأتي هذا الرفض الحكومي، والذي لم يتحول بعد إلى قرار نهائي بتجميد الأجور ، في إطار تعهدات الدولة التونسية إزاء صندوق النقد الدولي والقاضية، فيما تقضي، بعدم الترفيع في أجور الموظفين قصد تحقيق الهدف التالي وهو ألا تمثل كتلة الأجور في الوظيفة العمومية سوى %12 من الناتج الإجمالي المحلي في أفق سنة 2020.
وهنا لابد من طرح سؤالين أساسيين لم يحظيا بالنقاش الهادئ والعميق بين مختلف الفرقاء الاجتماعيين والسياسيين :
-هل أن تقليص نسبة كتلة الأجور إلى %12 بعد سنتين مسألة مفيدة أم مضرة بالاقتصاد الوطني وبتوازناتنا الاجتماعية ؟
-وبصفة أعم وأشمل : هل يمكن لتونس أن تستغني عن صندوق النقد الدولي وعن وصفاته المعروفة ؟
• لنعط بعض المعطيات المحينة عن كتلة الأجور كما تمت برمجتها في قانون المالية لسنة 2019. ستكون كتلة الأجور في سنة 2019 (ودون احتساب أية زيادة في الأجور ) في حدود 16515 مليون دينار وبنسبة %14.1 من الناتج المحلي الإجمالي مع العلم بأن كتلة الأجور لسنة 2018 والمقدرة بـ14814 مليون دينار إنما هي نوع من المغالطة المحاسبية نظرا لتعويض الزيادة في الأجور الفعلية بما سمي بالاعتماد الجبائي ، وقد تم إيقاف العمل بهذه التقنية المقصود بها التغطية عن الزيادة الفعلية في كتلة الأجور والتي انجرت عنها مشاكل شتى خاصة في احتساب الزيادات للمتقاعدين من أسلاك الوظيفة العمومية . ففي الحقيقة كتلة الأجور الفعلية في سنة 2018 هي في حدود 16150 مليون دينار أي بنسبة 15٫2 % من الناتج الإجمالي المحلي وهي الأعلى في العالم..
ولكن على كل حال نحن بعيدون كل البعد عن الالتزام بـ%12 في أفق 2020 وحتى لو تم تجميد اجور الوظيفة العمومية خلال سنتي 2019 و2020 فستكون نسبة كتلة الأجور في موفى سنة 2020 بـ%13 من الناتج الإجمالي المحلي ..
والواضح أن صندوق النقد الدولي الذي عقد اتفاقا مع تونس في ماي 2016 زمن حكومة الحبيب الصيد غير راض عن نسق نمو هذا الإنفاق العمومي ويعتبره خرقا لتعهد الحكومة التونسية ولذلك اعتبر أن كل زيادة في كتلة الأجور دون تحقيق نسب نمو تفوق بوضوح المتوقع غير مقبولة من طرفه والسبب في ذلك بسيط فارتفاع كتلة الأجور يدفع ضرورة إلى الاقتراض ويحد من هامش تحرك الدولة .
فلو كانت كتلة الأجور في سنة 2019 بنسبة %12 من الناتج لكانت هذه الكتلة في حدود 14000 مليون دينار فقط أي لحققنا اقتصادا بحوالي 2500 مليون دينار وكان بالإمكان تقليص الحاجة إلى الاقتراض بنظير هذا الفارق ..
الإشكال الذي سيعترض كل حكومة اليوم وغدا لا يكمن في مستوى التأجير للموظف العمومي بل في إصلاح هيكلي للوظيفة العمومية يتمثل في تشخيص دقيق لحاجيات البلاد وزارة وزارة بمختلف مستوياتها المركزية والجهوية والمحلية وإحداث الحركة الضرورية الأفقية (ما بين الوزارات) والعمودية (ما بين الجهات ) مع إيجاد جسم «الوظيفة العمومية العليا» لتحسين الحوكمة ولعقلنة التصرف في الموارد البشرية ولإسهام أفضل للإدارة في الدورة التنموية..
فالتخفيض في كتلة الأجور ليس غاية في حد ذاته بل وسيلة للحد من الانفاق العمومي في باب التصرف والتقليص من المديونية وإعطاء إمكانيات إضافية لباب الاستثمار العمومي ..
والإشكال الأساسي أننا تأخرنا كثيرا في إصلاح الوظيفة العمومية فتراكمت الملفات دون بداية انجاز فعلي للإصلاحات باستثناء برنامجي التقاعد المبكر والمغادرة الطوعية وكانت نتائجهما دون المأمول ..
وهذا التأخير في الإصلاح هو الذي دعا الحكومة إلى التفكير (؟) في تجميد الأجور للسنة القادمة بينما لو بدأنا فعلا في الإصلاح منذ سنة 2016 لكان بالإمكان الزيادة في الأجور في الوظيفة العمومية بما لا يتناقض وتعهدات الدولة تجاه صندوق النقد الدولي ..
• ونأتي للسؤال الأهم : هل بإمكان تونس الاستغناء عن صندوق النقد الدولي كما تدعو إلى ذلك عديد القوى الاجتماعية والسياسية ؟
في الحقيقة من الصعب أن نتحاور حول هذا الموضوع بالذات بالهدوء الكافي وخارج كل المسبقات الإيديولوجية ..
لم لجأت تونس إلى صندوق النقد الدولي ؟
بعد الثورة لجأت تونس في مناسبتين إلى صندوق النقد الدولي الأولى زمن الترويكا والثانية في 2016 مع حكومة الحبيب الصيد والسبب كان في كل مرة هو الانخرام المتزايد للمالية العمومية بتفاقم الإنفاق ، وكان جوهره في كتلة الأجور ، دون أن يصحبه نفس نمو الموارد فانتقلنا من كتلة أجور بـ 6785 مليون دينار في سنة 2010 إلى 16485 مليون دينار في سنة 2019 بنمو بـ 243 % بالأسعار الجارية وبـ 59٫8 % بالأسعار القارة وكنتيجة لهذا ازدادت الحاجة للاقتراض وتراجع الترقيم السيادي لتونس وأصبح الاقتراض في الأسواق الدولية مكلفا للغاية فتوجهنا - اضطرارا- إلى صندوق النقد الدولي حتى نتمكن من موارد اقتراض بكلفة مقبولة ( في حدود %2) ولكن صندوق النقد الدولي ليس مجرد بنك للدول بل هو أيضا جهة أساسية في توجيه السياسات العمومية لكل بلد يلجأ إليه ..
فسيادتنا الاقتصادية والاجتماعية قد قبلنا بالتفريط الجزئي فيها منذ أن أمضينا الاتفاق مع صندوق النقد يوم 20 ماي 2016 ومن الغرور الاعتقاد بأنه كان بإمكاننا «فرض» شروطنا على الصندوق وحتى تصور انه كان بإمكاننا افتكاك مرونة اكبر إنما هو من قبيل الرجم بالغيب لأنه لا توجد دولة واحدة لجأت إلى صندوق النقد وفرضت عليه ، ولو جزئيا ، جزءا من شروطها ..
بماذا يطالبنا صندوق النقد أساسا ؟
يطالبنا صندوق النقد الدولي بحزمة من الإصلاحات تهدف مترابطة إلى ما يلي :
-الحد من التداين العمومي ومن عجز الميزانية بالتحكم في الإنفاق العمومي
-توفير شروط نمو اقتصادي حقيقي إدماجي ، أي نمو يقاوم التفاوت الاجتماعي والجهوي والجيلي والجندري ويعتبر الصندوق أن القطاع الخاص هو القاطرة الأساسية لهذا النمو الإدماجي ..
-جملة من الإصلاحات المالية قوامها المرونة في صرف الدينار لتتقارب قيمته الرسمية مع قيمته الفعلية ومحاربة التضخم بالترفيع المستمر في نسبة الفائدة المديرية للبنك المركزي
- إصلاح شامل للصناديق الاجتماعية ولمنظومة الدعم بما يضمن ديمومة هذه المنظومات وإن لزم الأمر التخفيض في الخدمات التي تؤديها اليوم
هذه بعض «نصائح» أو «شروط» صندوق النقد وكان بالإمكان رفضها اي عدم الانخراط في اتفاقية هذا القرض الممدد ولكن كيف كانت ستكون النتيجة ؟
عجز الدولة عن الإيفاء بكل تعهداتها وذلك منذ سنة 2016 أو أن نخرج على الأسواق العالمية بنسب فائدة مجحفة للغاية تجعل الدولة في حالة عجز كامل على أقصى تقدير منذ سنة 2017.
ماذا يعني أن نتمرد اليوم على صندوق النقد الدولي ؟
يعني بوضوح تفاقم الإنفاق العمومي بالزيادة في كتلة الأجور وحجم الدعم والاستثمار .. مقابل ماذا ؟ يقول أصحاب هذا الرأي بأن الأموال موجودة عند المتهربين والمهربين .
هذا هو المفترض ، في أحسن الأحوال ، أما ما سيحصل فعلا فهو تراجع ترقيمنا السيادي وشبه استحالة الاقتراض في الأسواق العالمية وانقطاع تعاملنا مع كل الجهات المانحة من بنك عالمي واتحاد أوروبي والبنك الإفريقي للتنمية وغيرهم ..
هل يعني هذا أننا لا نملك أي هامش تحرك ؟ بالتأكيد لا ولكن أفضل طريق للتحرر من صندوق النقد الدولي هو تحسين كل مؤشراتنا الاقتصادية في المالية العمومية وفي غيرها وان تنكب بلادنا على العمل وان تقوم بالإصلاحات الفعلية..
لا يمكن ان يتحسن وضع البلاد وان تسترد فعلا قرارها السيادي الاقتصادي وماليتها العمومية منخرمة ونسبة الإنتاجية فيها متدنية ..
فعلا السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة ..

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115