في تداعيات الإضراب العام

بعد بصيص من الأمل صبيحة يوم أمس بمناسبة لقاء الفرصة الأخيرة الذي جمع رئيس الحكومة

بالأمين العام للمنظمة الشغيلة أغلق باب التفاوض وستعيش تونس غدا على وقع الاضراب العام في الوظيفة العمومية...

معطيات الملف واضحة: اتحاد الشغل يطالب بزيادة عامة للموظفين بناء على سنة التفاوض التي لم تنقطع، أو تكاد، منذ أكثر من 40 سنة وعلى مؤشر التضخم وتدهور القدرة الشرائية، والحكومة وان لا تعترض على هذا الحق ولكنها تعتبر نفسها ملزمة بجملة اتفاقاتها مع صندوق النقد الدولي ومن أهمها التحكم في كتلة الأجور بعدم منح زيادات للموظفين هذه السنة.
اذن سيحصل الإضراب العام في الوظيفة العمومية هذا الخميس 22 نوفمبر والمرجح أن نجاحه سيكون واسعا، رغم ارتباط العديد من مصالح المواطنين بالادارة ولكن يوم اضراب لن يغير كثيرا من حياة الناس وهو سيكون يوم «عطلة» اضافية للتلاميذ ولعدد هام من أوليائهم اما لمساهمتهم في الاضراب أو لتعذر القيام بأعمالهم بسببه ولكن ما يهمنا بالأساس هو كيف ستكون تونس ما بعد 22 نوفمبر وكيف سينعكس هذا التوتر الاضافي في العلاقة بين الحكومة والمنظمة الشغيلة على الوضع الاجتماعي العام في بلادنا؟

في كل مرة تحتد الأزمة بين المنظمة الشغيلة والحكومة - هذه أو سابقاتها - إلا وتنفرج في الربع الساعة الأخير ولكن يبدو أن الأمور تسير على غير هذا النحو هذه المرة وأن الاضراب العام سيتلوه تصعيد وتوتر اضافي وتحركات لم تفصح بعد قيادة الاتحاد عن تفاصيلها..
في هذه المرة اختارت الحكومة الاحترام الكلي لتعهداتها مع صندوق النقد الدولي على حساب وفاق اجتماعي كانت دائما تبحث عنه في السابق وكأنها اختارت أن تواجه الأزمة اليوم بدل تأجيلها المستمر...

والسؤال المطروح هو هل ستبقى الحكومة على نفس هذا الموقف رغم التصعيد المنتظر أم أنها ستبحث عن حلّ وسط لو قدرت أن الأزمة الاجتماعية الناجمة عن رفضها للزيادات قد تدفع الى انفلاتات غير محمودة العواقب؟!

لا ينبغي أن ننسى أن الدولة التونسية قد تعهدت منذ حكومة الحبيب الصيد في ماي 2016 في اطار هذا القرض الممدد مع صندوق النقد الدولي بأن تتحكم في كتلة الأجور وأن تصل بها الى مستوى 12 ٪ من الناتج الاجمالي المحلي في أفق سنة 2020 وكانت هذه النسبة تناهز آنذاك 14 ٪ وما فتئت هذه النسبة في الصعود وقرار الحكومة بتجميد الأجور لسنة 2019 (وهو قرار غير معلن بهذه الصفة) يهدف بالأساس الى النزول بهذه النسبة في حدود 14٫2 ٪ مع الأمل بألا يتجاوز كثيرا 13 ٪ في سنة 2020...
حسابات الحكومة قد تكون سليمة على الورق، ولكن واقع الناس لا يُلعب فقط بالحسابات السليمة على الورق.

بداية لا يمكن للحكومة تقرير تجميد الأجور في الوظيفة العمومية دون أن تعلن ذلك بصفة علنية أو تعلن عن الحجم الأقصى لزيادة ممكنة حتى لو كان ذلك بـ 1 ٪ فقط، فنحن أمام قرار هام ومصيري لحوالي ستمائة وخمسين ألف موظف وباحتساب عائلاتهم قد نتجاوز مليوني تونسية وتونسي...

فإعلان القرار وشرح أسبابه شرط ضروري، ولكنه ليس كافيا، لايجاد خيط تواصل مع عموم المواطنين، ولكن الأهم في كل ذلك هو أن تجميد الأجور سينجر عنه وبصفة آلية فقدان كل الموظفين لحوالي 8 ٪ من قدرتهم الشرائية في سنة واحدة وهذا لم يحصل في تونس لمدة عقود.. فلو كانت نسبة التضخم في حدود 2 ٪، مثلا، لأمكن اقناع الموظفين بتجميد ظرفي لرواتبهم أما وأن التضخم يشارف هذه السنة على 8 ٪ فالأمر يصبح مختلفا للغاية وخسارة هذا الجزء من القدرة الشرائية لأهم شريحة في الطبقة الوسطى ستكون له انعكاسات هامة على الأوضاع الاجتماعية لهذه الفئة..

لو حصل هذا التجميد للأجور في الوظيفة العمومية سنكون أمام أحد أهم «الاجراءات الموجعة» التي بشرتنا بها كل الحكومات منذ سنة 2014 ولكن الاشكال، كل الاشكال، أن لا أحد أخذ تفويضا شعبيا على هذا لا أثناء الحملة الانتخابية ولا كذلك وبالوضوح الكافي إبان خطابات نيل الثقة أمام مجلس نواب الشعب.

يمكن أن نقبل برنامج حكومة يقوم على الضغط على الانفاق العمومي بالحد من كتلة الأجور ومن عدد الموظفين مثلا ولكن شريطة أن ينال هذا البرنامج بهذا الوضوح ثقة الناخبين أما أن يصوت الناس لأحزاب تعدهم بالرفاه العام بعد سنتين ويجدون أنفسهم مضطرين لتقليص هام في قدرتهم الشرائية بعد 4 سنوات فهذا لا يتماشى ومعنى التفويض الشعبي...
يمكن أن نقبل أيضا حدوث أشياء تفرض أحيانا تعديلات جوهرية على سياسة حكومة منتخبة أو معينة ولكن في هذه الحالة كان على رئيس الحكومة عرض ما يريد القيام به أمام مجلس نواب الشعب وطلب الثقة منه بناء على هذا الإعلان الصريح بكل الاجراءات المزمع اتخاذها حتى يكون الرأي العام على بينة من أمره وأن تتحمل أغلبية الحكم كذلك مسؤولياتها بالتصويت على برنامج كهذا...

لسنا ندري هل اختارت حكومة الشاهد الصدام مع اتحاد الشغل أم لا؟ ولكن قرار تجميد الأجور في الوظيفة العمومية بعد قبول الزيادة في رواتب أجراء المنشآت العمومية يبدو غريبا إلى حدّ ما كما أن القبول بالدخول في مفاوضات اجتماعية لا تنجر عنها زيادات في الأجور في الوظيفة العمومية يقارب العبث كذلك.. ثم إن هذه الحكومة تريد تمرير جملة من الاصلاحات تهم مباشرة شركاءها الاجتماعيين كاصلاح الصناديق الاجتماعية ومراجعة منظومة الدعم والنظر في وضعيات المؤسسات العمومية، فهل ستختار الحكومة في كل هذا نهج المرور بقوة أم أنها ستسعى للتفاوض؟ وكيف سيكون مناخ التفاوض لو عاشت البلاد أزمة اجتماعية حادة نتيجة لتجميد الأجور في الوظيفة العمومية...
البلاد تخطو غدا خطوة نتمنى ألّا تكون نحو المجهول.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115