التفجر العلني للصراع الدائر بين رأسي السلطة التنفيذية منذ أكثر من نصف سنة وتحديدا منذ إعلان رئيس الدولة مسار قرطاج 2 الذي كان ينظر – فيما ينظر – في مستقبل رئيس الحكومة دون حضوره أو في مجرد الاستماع إليه..
هذا الصراع الذي بدأ في الأول بين طرفين غير متكافئين، طرف مبادر – رئيس الدولة -وطرف تابع – رئيس الحكومة – انتهى يوم أول أمس بطرف فاعل - رئيس الحكومة - وطرف لا يملك سوى رد الفعل – رئيس الدولة – كيف ولماذا حصل كل هذا ؟
لقد وضع دستور 2014 قواعد جديدة للنظام السياسي قوامها الأولوية النسبية للسلطة التشريعية على التنفيذية ولكن مع اعطاء رئيس الدولة امتيازا واضحا باعتباره منتخبا من قبل الشعب بما يجعله رمزيا في مرتبة أعلى من رئيس الحكومة وان كان ذلك بصلاحيات اقل بكثير منه .. ثم اضاف دستور 2014 مستويات جديدة للسلطة تمثل أولها في الهيئات الدستورية وشبه الدستورية والتي أوكل إليها مهمة «دعم الديمقراطية» في مجالات مهمة كالانتخابات والقطاع السمعي البصري وحقوق الإنسان ومكافحة الفساد والتنمية وحقوق الآجيال القادمة كما أقر الدستور أيضا السلطة المحلية القائمة على مبدإ اللامركزية.
هذه الهندسة الجديدة المعقدة شيئا ما والتي لا نملك إزاءها خبرة خاصة رفضتها ، ضمنيا ، الأغلبية الفائزة في 2014 وأرادت تطويع نص الدستور وروحه لممارسة رئاسية للسلطة فمنطق الدستور كان يفترض – كما الحال في كل الأنظمة البرلمانية أو شبه البرلمانية – بأن يكون رئيس الحكومة هو زعيم الأغلبية باعتبار الصلاحيات الواسعة لصاحب القصبة في دستور 2014 وباعتبار أن هدف الأغلبية في كل بلاد هو تغيير الواقع المعيشي للمواطنين لا فقط التمثيل الديبلوماسي للبلاد والقيادة العليا للقوات المسلحة..ولكن رئيس الأغلبية في سنة 2014 الباجي قائد السبسي بقي وفيا لثقافته السياسية ولتصور نظام حكم يقوم على شخصية الزعيم المنتخب هذه المرة ولذا تم التعسف على روح الدستور – لا نصه – بوضع رئيس الأغلبية في قرطاج وتعيين رئيس حكومة لا يملك أي نفوذ على الأغلبية ولم يسهم لا من قريب ولا من بعيد في فوزها فأصبح لدينا رئيس حكومة بصلاحيات فعلية دون تلك التي كانت عند الوزير الأول زمن الحكم الرئاسوي..
لقد كانت هذه هي الخطيئة الأصلية التي أدخلت شرخا في التنزيل الفعلي للدستور وحينما أراد رئيس الحكومة، السيد الحبيب الصيد ، أن يدافع عن بعض صلاحياته وجد نفسه معزولا سياسيا وبرلمانيا وتم استبعاده بمبادرة رئاسية، قرطاج 1، انطلقت من خارج الدستور ونفذها فيما بعد مجلس نواب الشعب دون أن يكون لاعبا أساسيا فيها..
لا شيء تغير في البداية مع خليفة الحبيب الصيد يوسف الشاهد .. لقد كان شخصية نكرة قبل تكليفه بمهام حكومية وحزبية أثناء حكم سلفه وعندما ارتقى إلى القصبة كان ذلك فضلا ومنّة من رئيس الدولة الذي بقي اللاعب السياسي والمؤسساتي الأول خاصة بعد ما ضمن الولاء المطلق والكلي لزعيم الحزب الثاني راشد الغنوشي..
ولكن ثمة شيء قد تغيّر رغم ذلك ما بين رئيسي الحكومة المتعاقبين، الأول هو أن ليوسف الشاهد ومنذ تعيينه طموحا سياسيا لم يكن لسلفه فإن كانت رئاسة الحكومة هي تتويج لمسار الحبيب الصيد فإنها كانت بمثابة إعلان بداية مسار يوسف الشاهد وهذا يعني أنه كان ومنذ تعيينه في أوت 2016 ينظر إلى سنة 2019 وما بعدها ويتصرف – حدسا أو رؤية - وفق هذا الأفق أما التغيير الثاني فهو الطارئ على الحزب الفائز والذي دخل في مرحلة نشيطة من «التوريث الديمقراطي» مع ما سمي بمؤتمر سوسة في جانفي 2016..
لاشك لدينا بان يوسف الشاهد قد تأمّل مليّا في الطريقة التي أدت إلى إنهاء حكم سلفه وكيف أن غياب الحزام السياسي البرلماني إنما هو ممهّد لتكرار التجربة دون قدرة على الرد..
ولكن تجربة وثيقة قرطاج الأولى بينت أهمية مسألة أخرى وهي قوّة المنظمات الاجتماعية وعلى رأسها اتحاد الشغل وهذا ما أدركه الشاهد ولهذا سعى في البداية إلى الاقتراب من المنظمة الشغيلة حتى قيل أن أول ميزانية لحكومة الشاهد سنة 2017 هي ميزانية جعلت لإرضاء الاتحاد العام التونسي للشغل على حساب اتحاد الصناعة والتجارة والصناعات التقليدية.
أي أن يوسف الشاهد ومنذ بداية فترة حكمه كان يبحث عن تحصين نفسه وحكومته من أهواء وأغوال حزبه والتوازنات السياسية التي يمكن أن تعصف به وقد وجد في السنة الفارطة عندما توافق حزبا الحكم على إزاحته في اتحاد الشغل خير سند لدعمه ولإيقاف مخطط إبعاده في أوت 2017..
المهم في كل ذلك هو ان الطموح السياسي لرئيس الحكومة جعله يخطط منذ البداية لكي لا يكون معزولا في الساحتين السياسية والاجتماعية والبحث عن التحالفات فيهما التي تسمح له بالصمود في فترات استهدافه من قبل خصومه خاصة عندما يكونون من قيادة حزبه المفترض فيه دعمه وإسناده .. ولهذا أيضا كوّن يوسف الشاهد حلقة مضيقة من المخلصين له حتى يتمكّن من التفكير ومن رد الفعل دون انكشاف سريع لتوجهاته ومخططاته ..
بعد أزمة صائفة 2017 التي مرت بسلام على صاحب القصبة جاءت أزمة ربيع 2018 والتي فقد فيها الشاهد سنده الأساسي الاتحاد العام التونسي للشغل فسعى إلى استعمال أقصى ما تسمح به أدوات النظام السياسي الجديد وبدأ في التفكير في منع قيام أغلبية برلمانية ضدّه وذلك باستمالة حركة النهضة في البدء وإقناعها بأن مصلحتها تكمن في المراهنة عليه اليوم وغدا لا في مواصلة توافق مع رئيس جمهورية لا أفق سياسي له خاصة بعد سنة 2019..
ولكن هذا لم يكن كافيا لتحصين مواقع رئيس الحكومة ومن هنا حصلت تلك الجدلية الإيجابية بالنسبة له إذ عندما خرج إلى عموم التونسيين ذات يوم في رمضان 2018 ليتهم بالاسم نجل رئيس الدولة بالوقوف وراء الأزمة السياسية التي تهدّد البلاد وضع نفسه كحامل لأمل ممكن ولبديل ندائي عن النداء الحالي وبقدر ما اتضحت هذه الصورة اقترب منه نواب من هذه العائلة الوسطية ومن النداء التاريخي أو من القريبين منه كحزب آفاق فأصبحت هنالك جاذبية خاصة ليوسف الشاهد أمام تراجعها بالنسبة لخصومه وبما في ذلك رئيس الجمهورية ذاته..
وهكذا يكون التحوير الوزاري الواسع الذي أقدم عليه الشاهد يوم أول أمس منعطفا جديدا في هذه العلاقة المعقدة التي تربطه بحزبه وبزعيمه المؤسس..
اليوم يوسف الشاهد هو رئيس الأغلبية البرلمانية دون منازع، رئيس بالشراكة مع حركة النهضة لاشك ولكن لا كتابع لها كما كان حال حزبي المؤتمر والتكتل أثناء تجربة الترويكا ولكن كرئيس قادر على تجميع جزء هام من فضائه السياسي الأصلي..
وهكذا بعد أن شاهدنا أقصى صورة ممكنة لنظام رئاسي مع مبادرة قرطاج الأولى ها نحن بصدد مشاهدة أقصى ما أن يمكن يوفره نظام برلماني مع رئيس حكومة هو فعلا زعيم الأغلبية لا بيدقا بيدها ولكن الإشكال الأكبر هو أن هذه الأغلبية ليست نابعة من نتائج الصندوق بل هي تطورات لاحقة لها ولا شيء يدل على قدرتها على إقناع الناخبين بوجاهتها وبشرعية تمشيها..
لا أحد كان يتصور أن يتمكن صاحب القصبة الحالي من تحدي حزبه ورئيس الدولة والبقاء رغم ذلك في دفة الحكم..
ولكن نحن نعيش الآن أزمة سياسية ومؤسساتية غير مسبوقة لأن منطق الدستور وإن أعطى صلاحيات كبرى لرئيس الحكومة إلا أنه لم يتأسس على الصراع بين رأسي السلطة التنفيذية ونحن سنعيش على وقع هذا الصراع العلني المفتوح على امتداد كامل السنة القادمة إلى حين إرجاع الكلمة إلى الناخبين..
نحن أمام ما أسميناه بحروب الوسط ومن يكون هو الناطق الأساسي باسمه: الندائي الحالي أم مشروع الشاهد الجديد أم ربما قوة وسطية جديدة (حزبية أو مستقلة) تستفيد من هذا الصراع الأخوي التراجيدي ومن قرف التونسيين لتكون هي البديل عن النداء بكل أشكاله ..
نحن في بداية معركة حاسمة لم تبح بعد بكل أسرارها ولكن الواضح ان الشاطر غدا من سيراهن على التحكم في القصبة لا في قصر قرطاج.