ماذا بعد كلّ هذا اللغو؟: قراءة هادئة لحدث «إرهابي»

هرج ومرج وضجيج ولغو... هذه هي حالنا بعد كلّ حادث إرهابي. تتعالى الأصوات ثمّ سرعان

ما تخفت لتتوارى ويعود كلّ «محلّل» و«خبير» و«متخصّص» إلى وكره ليهتمّ بشؤونه اليومية في انتظار الحدث الموالي وكأنّ لسان حاله يقول: «اللهم ارزقنا حدثا آخر حتى نخرج إلى الأضواء فنكون على «نسمة»، و«فرانس24» و«الغد» و«CBC...».

ولكن أليس من حقّ التونسيين أن «يهضموا» المعلومات وفق قاعدة أرستها ثقافة التريّث والهدوء «Slow culture» ويكتشفوا ما وراء الحدث وأن يستخلصوا الدروس؟ ويتمثّل أوّلها في إشكالية التسمية:»الانتحارية'' التي تحيل على أدبيات تخصّ نوعا من النساء المنخرطات في العنف، ونعني بذلك فئة الانتحاريات اللواتي ارتبط مسارهنّ في تاريخنا بالمقاومة وتحرير الأوطان منذ القرن الماضي وقد شاركت فيها الشابات والنساء فصرنّ أيقونات النضال في فلسطين وبيروت وغيرها. فهل يجوز لوسائل الإعلام إطلاق هذا النعت على شابات ونساء رغبنّ في 'نيل الشهادة' لا دفاعا عن الوطن أو القضية بل تمسّكا بيوتوبيا الخلافة و'أمّة الجهاد' حتى وإن اقتضى الأمر سقوط مئات الأبرياء؟

وإذا علمنا أنّ دراسات الإرهاب والتطرّف تتعمّد ترويج هذا المصطلح لخلق اللبس في أذهان الناس ودفعهم إلى الخلط بين الانتحاريات /المقاومات والانتحارات/«الجهاديات»، وجب علينا أن نكون أكثر دقّة في التوصيف وفي تداول المصطلحات والوعي بخلفياتها .فما فعلته «منى قبلة» يجعلها إرهابية -فاعلة تعتمد تفجير الذات لبلوغ الأهداف ويمكن أن نسمّيها «إرهابية منفّذة للتفجيرات» في مقابل الإرهابيات الأخريات اللواتي يعتمدن وسائط ووسائل أخرى متفاوتة الخطورة وتطلق عليهن نعوت أخرى.

أمّا الاستنتاج الثاني فيكمن في ضرورة تأطير النقاش حول الأحداث الإرهابية في سياقه المتعدّد الأبعاد، وبعيدا عن خصوصية السياق السياسي المرتبط بالاستقطاب الحديّ والصراع بين السياسيين. فما حدث، وإن كان موصولا إلى مناخ العنف السياسي ، إلاّ أنّه لا ينبغي أن يحجب عنّا حقيقة أهمّ وهي التأمّل في تكتيك هذه الجماعات. فقد غيّرت الجماعة استراتيجياتها فانتقلت من «تسفير/تصدير النساء» إلى بلدان النزاع إلى استدراجهنّ إلى النشاط الجهادي محليّا، وبذلك يغدو الاستقطاب متنوّعا فثمّة اليوم في تونس فئة من النساء تُستقطب خصيصا لإنجاز العمليات التفجيرية.

ولئن كانت منفّذة التفجير واحدة فما ينبغي الانتباه له مستقبلا هو العمليات النسائية الجماعية. فقد توصّلت القوات الأمنية بالمغرب سنة 2016 إلى تفكيك خلية تتكوّن من 10 نساء منهنّ 7 قاصرات وأعمارهنّ تتراوح بين 15 و30 وكلّهن استقطبنّ من خلال الأنترنت وتعلّمن صنع المتفجرات عبر مواقع تدعو النساء إلى التدرّب: أخيّتي في الدين شاهدي بعض المقاطع في استخدام السلاح وصنع المتفجرات...» وكانت أهداف المجموعة تفجير البرلمان ومكان الاحتفال بمهرجان موازين، وغيرها من الفضاءات العمومية المفتوحة.

أمّا الاستنتاج الثالث فيرتبط بشعار «الخلافة باقية وتتمدّد». فلئن سقطت «دولة الخلافة» بعد فقدان المجال الجغرافي فإنّ الفكرة والأيديولوجيا واليوتوبيا لازالت «تتمدّد» وتستهوي فئة من الشبّان في مجتمعات عجزت عن إنتاج البدائل وإقناع هؤلاء الذين لم يحقّقوا ذواتهم بأنّ ثقافة الحياة أهمّ من ثقافة الموت، وهو ما يدفعنا إلى مزيد العمل على أرض الميدان وتغيير الخطاب والأدوات.

ولا يمكن التغاضي عن استنتاج رابع مرتبط بالدور المنوط بمؤسساتنا التربوية والجامعية التي ما عادت تمثّل قلعة المعرفة في نظر الشبّان/ت ولا فضاء لتطوير الذات. فتهميش الإنسانيات وهجرة الجامعيين واستقالة عدد منهم، وتدنّي مستوى الخدمات وما ترتّب عن منظومة أمد من نتائج سلبية على مستوى التكوين جعل بعض الجامعات بمثابة «حضانات» أو «مراكز إيواء». ولا تسل عن وضع المؤسسات الثقافية في المناطق النائية ولا عن حظّ الثقافة في البرمجة الإعلامية المرئية...

لسنا بحاجة إلى «قفا نبك على ذكرى الزعيم بورقيبة» وعلى تونس... فقد دقّت الساعة وعلينا أن نتحمّل مسؤولياتنا التاريخيّة وأن نكون في مستوى التوقعات فأبناؤنا في خطر حقيقيّ يجذبهم الموت فيغادروننا بأشكال مختلفة حرقا وارتماء في البحر وانتحارا وغيبوبة إرادية وتفجيرا... فهل تعقلون؟

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115