بعد اندماج حزب سليم الرياحي في النداء: حروب الاستقطاب الثنائي .. في الوسط !!

تعيش بلادنا منذ حوالي نصف السنة وبصفة واضحة وجلية على وقع صراع غريب ونادر في التجارب السياسية :

صراع بين رأسي السلطة التنفيذية من داخل نفس الحزب السياسي يتحول تدريجيا إلى الصراع الأقوى والأعنف داخل الساحة السياسية وهو بصدد التحول من معركة حدود إلى معركة وجود على حد تعبير إخواننا الفلسطينيين ..

الصراع الذي اندلع في الحقيقة منذ حوالي السنة ونصف السنة وشهد صولات وجولات وانتصارات لهذا وذاك يقوم على مبدإ بسيط: من يرث الفضاء السوسيولوجي الانتخابي لنداء تونس ؟ هل هي القيادة الحالية الملتفة حول نجل رئيس الجمهورية أم قيادة شابة وجديدة حول رئيس الحكومة ؟ وما دامت هذه المعركة لم تحسم بصفة واضحة ونهائية لصالح طرف ما فستبقى في دائرة الرحى الأساسية في المشهد السياسي إلى حدود الانتخابات التشريعية والرئاسية القادمة ، ولا شيء يقول ، مبدئيا ، أنها ستنتهي حينها بل قد تتواصل أثناء الانتخابات وبعدها خاصة إن لم يحسم الصندوق بصفة واضحة الخصومة بين هذين الفريقين الأخوين اللدودين ..

يخطئ من يعتقد بأن الحسم سيكون سريعا لصالح احد المعسكرين لأن لكليهما أسلحة وإمكانيات لا يتوقع استنزافها على المدى القصير وأهم هذه الأسلحة بلا شك هو تمترس كلى الفريقين بسلطة الدولة وأجهزتها : رئاسة الجمهورية لهؤلاء ورئاسة الحكومة لأؤلئك ، كما أن لكل فريق – على ما يبدو – عددا من «الملفات» ضد الخصوم وحلفاء الخصوم بما ينبئ بسنة ساخنة كل الأسلحة فيها مباحة حتى ما كان محظورا منها أخلاقيا وسياسيا..

لاشك أن مسار «التوريث الديمقراطي» قد أجج هذه الحرب وأقحم فيها العائلي بالسياسي واستدعى لذلك لوبيات تتعارض مصالحها بصفة كلية مع دولة القانون العادلة والقوية ولكن لا نعتقد بأن « التوريث الديمقراطي» مسؤول لوحده فقط على هذا الاستقطاب الثنائي الحاد بين رأسي السلطة التنفيذية لأن المعطى الجوهري فيه هو «وراثة» الفضاء الانتخابي للباجي قائد السبسي وللنداء التاريخي ، وبما انه استحال انجاز وراثة مقبولة من الجميع احتدت المعركة بين كل من يعتقد أنه قادر على ملء هذا الفضاء ، وفي الحقيقة عدد هؤلاء كثير وجلّهم يرى أنه قادر لوحده على ملئه وأنه ما على الآخرين إلا الاصطفاف وراءه فقط لا غير ..

معارك الاستقطاب الحاد هذه تعود إذن لهذين الأمرين : مشروع «التوريث الديمقراطي» والذي رفض الباجي قائد السبسي وأده في المهد بل رعاه وحماه بصفة مباشرة وغير مباشرة وكذلك عدم إيمان جل «الورثاء» بضرورة الالتفاف معا حول مشروع جماعي وتفضيلهم لمغامرات فردية اتضح فشل جلها إلى حد الآن ..
هذا الاستقطاب الثنائي الحاد هو أشبه ما يكون بلعبة «البوكير» الكاذب الهام فيها ليس قيمة الأوراق التي يمتلكها حقيقة كل طرف بل إيهام الخصم بالقدرة على الفوز الساحق والمنتصر في هذه اللعبة هو ذاك الذي يقدر على زرع الخوف والشك في صفوف المنافس فتختل الصفوف وتتبعثر الأوراق ..

الأساسي في المعارك الظاهرة والخفية بين رأسي السلطة التنفيذية هو إقناع هذا العدد الهام من الوجاهات المحلية والجهوية بأن الاصطفاف وراءها هو الضامن للنجاح في انتخابات 2019 وبالتالي الضامن للمواصلة في الحكم ..

الواضح اليوم وبعد نزول الباجي قائد السبسي بنفسه إلى ساحة الوغى أن انخرام التوازن بين «الحافظيين» و«الشاهدين» قد زال إلى حد ما وان النزيف الذي كان ينخر جسم النداء – وما زال- قد تحول إلى الجسم الجديد كتلة الائتلاف الوطني وذلك بخروج 14 نائبا دفعة واحدة والرهان ، كل الرهان، عند الأدمغة الندائية المفكرة هو أن يتجاوز هذا النزيف كتلة الوطني الحرّ وأن يشمل بعض النواب المستقلين أو المغادرين حديثا للنداء والأكيد أن كل الوسائل ستكون مباحة إذ الغاية بسيكولوجية بالأساس : إقناع المعنيين بالأمر بتحول موقع الهزيمة من معسكر إلى آخر . والخسارة هنا مزدوجة للصف «الشاهدي» لا فقط بفقدان حوالي ربع كتلة الائتلاف الوطني بل ضعف المناورة وسوئها في ذات الوقت ، فمن سبق بالمناورة

والتفاوض تحت الطاولة من اجل مصلحة قريبة لا دخل للمصلحة الوطنية فيها لا يمكنه أن يلوم خصمه على اللجوء إلى نفس الأسلوب ..

ولكن التوازنات الكبرى داخل مجلس نواب الشعب لن تتغير بصفة جوهرية على المدى القصير على الأقل ما دامت حركة النهضة مساندة لحكومة يوسف الشاهد وما دامت هنالك كتلة الائتلاف الوطني وازنة بشكل يمنع قيام أغلبية عددية ضد الحكومة ولكن معارك الاستقطاب مازالت دائرة وسنشاهد في الأيام والأسابيع القادمة تنافسا شرسا بين هذين الطرفين من اجل استقطاب النواب والتقارب مع أحزاب وشخصيات ذات رمزية على الساحة السياسية والهدف الأول والرئيسي هو إعطاء الانطباع بالقدرة على الفوز في الاستحقاق الانتخابي القادم ..

مسألة وحيدة قد تغيب عن الطرفين معا وهي أن الحرب المفتوحة بينهما قد تنتهي بخسارتهما الاثنين وذلك بإضعافهما وبتفاقم النفور منهما وقد يستفيد من ذلك خصوم هذين الطرفين معا او قائمات مستقلة تشتغل على فشل كل الأحزاب السياسية والمتحزبين ...

فمعارك الوسط بين رأسي السلطة التنفيذية علاوة على ارتهانها لمصالح البلاد لحسابات سلطوية وانتخابوية فهي قد تعمّق نزعة العزوف عن السياسة والسياسيين .. والخطر ، كل الخطر ، هو إنهماك هذين الفريقين في تحطيم بعضهما البعض دون الانتباه إلى أن هذا التحطيم المتبادل قد يؤدي إلى أضرار فادحة للبلاد..
الإشكال ليس في الصراع بل في مضمونه أو في غياب مضمون جدي له وفي اقتصاره على الحسابات التكتيكية وتغييبه للقضايا الكبرى التي تهم البلاد اليوم .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115