مالية تكميلي لسنة 2018 والآن ستدخل البلاد وعلى امتداد شهرين في مناقشة جملة الإجراءات والقرارات والسياسات المتضمنة خاصة في مشروع قانون المالية لسنة 2019.. ولكن يمكن أن نراهن منذ الآن أن النقاش العام ستطغى عليه الحسابات السياسية فمن هو معارض للحكومة فلن يرى فيه إلا الفشل والفشل المتراكم وطاحونة الشيء المعتاد ومن هو موال لها فسيمتدح القرارات الشجاعة والاستشراف المستقبلي منقطع النظير وفي هذه السنة السياسية الحاسمة قد يضيع الأساسي بين حسابات هؤلاء وهؤلاء ..
الأساسي هو أن نعلم هل نحن بصدد مفاقمة أزمة المالية العمومية أم هنالك بوادر للخروج منها وما بقي فهو جزئيات لا يخلو منها قانون مالية في العالم ..
يعلم عموم التونسيين أن هنالك أزمة منذ أن خرج رئيس الحكومة الأسبق السيد المهدي جمعة في بداية 2014 ليقول لنا بأن هنالك ثقبا في الميزانية بـ5 مليار دينار ثم قالت لنا حكومة مهدي جمعة بعد شهرين من بداية اشتغالها ان لو تواصل الأمر على ما هو عليه سيكون من الصعب جدا الإيفاء بتعهدات الدولة من جرايات المتقاعدين وأجور الموظفين..
كان هذا منذ أربع سنوات ونصف ووضع البلاد يتفاقم من يوم إلى آخر ومؤشراتها العامة بصدد التراجع من التداين الخارجي وعجز الميزانية وعجز الميزان التجاري .. وهذا ما اجبر حكومة الحبيب الصيد في ربيع 2016 على اللجوء إلى صندوق النقد الدولي لعقد اتفاق القرض الممدد وكانت هذه المرة الثانية بعد الثورة التي تلجأ فيها تونس إلى صندوق النقد الدولي ، الأولى مع الترويكا والثانية مع حكومة الحبيب الصيد ..
منذ سنة 2014 والحكومات المتعاقبة تتحدث عن ضرورة الإصلاح بل وعن «الإصلاحات الموجعة» وان انخرام توازنات المالية العمومية لا يمكن أن يستمر ، ومنذ سنة 2014 لم نفعل سوى مفاقمة الأزمة لأن الجزء الأكبر من الرأي العام ومن الفاعلين السياسيين والاجتماعيين يرفضون الاعتراف بهذه الأزمة والإقرار بأن سببها الأساسي أن البلاد تنفق ما لا تملك وتعيش فوق إمكانياتها الحقيقية ..
تلك هي الحقيقة المرة والأساسية لتونس ما بعد الثورة : الإنفاق العمومي ينمو بوتيرة أسرع بكثير من نسق خلق الثروة فنضطر إلى تعويض الفارق باللجوء إلى الاقتراض ولكن أساسيات اقتصادنا لا تسمح لنا باللجوء إلى السوق المالية فالتجأنا في مناسبتين إلى صندوق النقد الدولي حتى نقترض بشروط أفضل ولكن لهذا اللجوء كلفة لم نستعد بعد لها بما يكفي..
والكلفة هي الضغط على الإنفاق العمومي والتقليص الإجباري في نسبة عجز الميزانية وفي حجم التداين العمومي كذلك ..
عندما نطّلع على مشروع قانون المالية لسنة 2019 وعلى النتائج الوقتية لانجاز قانون المالية للسنة الحالية نلاحظ بوضوح أننا بصدد النجاح النسبي في هذين الأمرين .
لو لاحظنا نمو نسبة التداين لرأينا أنها بدأت في التفاقم منذ سنة 2014 وبعد أن أتت الترويكا على كل مدخرات البلاد فانتقلنا من %41 سنة 2010 إلى %51 سنة 2014 فـ%62 سنة 2016 وتجاوزنا سقف %70 في السنة التي تليها (%70.3)..
ما نلاحظه في هذه السنة هو التراجع الكبير لنسق نمو التداين الذي لم يرتفع في سنة واحدة إلا بـ%1.4 ليصل إلى %71.7 في 2018 ولأول مرة قد تنزل نسبة التداين لتكون في حدود %70.9 في السنة القادمة ..
لاشك أن المواطن لن يشعر بمردود ما لهذا التراجع الطفيف ولكن التحكم في المديونية العمومية هو الشرط الأول لاستقلال القرار الاقتصادي ..
والايجابي في هذا التحكم الذي بدأ يتضح منذ هذه السنة انه لا يعود بالمرة إلى الحد من الإنفاق العمومي الذي مازال يتواصل بوتيرة مرتفعة بل إلى الجهد الكبير في استخلاص المعاليم الجبائية إذ تحسنت الموارد الجبائية للدولة في هذه السنة بحدود 4 مليار دينار وهذا جهد غير مسبوق ويحسب للحكومة الحالية ..
وارتفاع المداخيل الجبائية نتج عنه تحسن واضح في نسبة الموارد الذاتية للدولة من جبائية وغير جبائية لتتجاوز %75 بالنسبة لجملة إنفاقات الدولة بعد أن كانت هذه السنة دون %70 ولكن مازلنا بعيدين عن النسبة الفضلى والمثالية وهي %85 والتي تقلص بصفة أساسية من حاجة البلاد إلى الاقتراض والاقتراض الخارجي أساسا..
ونتج عن كل هذا تراجع ملحوظ في عجز الميزانية فبعد أن كان ارفع من %6 في 2016 و2017 نراه نزل إلى %4.9 في 2018 وفق آخر تحيين مضمن في مشروع الميزانية التكميلية لهذه السنة وسيتواصل الجهد المعلن في 2019 ليكون العجز في مستوى %3.9 من الناتج الإجمالي المحلي ..
هل يعني هذا أن المالية العمومية قد تعافت ؟ بالتأكيد لا ولكن النزاهة تفرض علينا الإقرار بأن جهودا هامة قد بذلت على مستوى ميزانية الدولة خلال هذه السنة على الأقل للتحكم في انفلات كل أصناف العجز وأننا بدأنا في تعديل الكفة وفي بداية جديدة لتحسين بعض المؤشرات العامة خاصة إذا ما استمرت الانتعاشة النسبية في النمو لكي نخرج بصفة نهائية من النمو الهش (ما بين %1 و%2) إلى نمو معقول (%3 فما فوق ) في انتظار أن نقترب من نمو خالق للثروة وللشغل ومغير للمعطيات الاقتصادية والاجتماعية بصفة واضحة (%5 فما فوق ) ولكن هذا جزء من الصورة لان المالية العمومية لا تتحدد فقط داخل مؤشرات ميزانية الدولة بل وكذلك خارجها وخاصة في مستوى الميزان التجاري وميزان الدفوعات وهنا هنالك فشل ذريع في التحكم في عجزنا التجاري الذي تجاوز خلال الأشهر التسعة الأولى لسنة 2018 14 مليار دينار وهو مرشح لبلوغ 20 مليار دينار لو تواصل نسق الأشهر الأخيرة على هذه الحالة ..هنالك اذن تحكم غير متكافئ في جملة التوازنات المالية كما لاحظ ذلك خبير اقتصادي له اطلاع واسع على المطبخ الحكومي : جهد واضح للتحكم في كل مؤشرات العجز في الميزانية وفشل ذريع في التحكم في العجز خارجها ..
وتونس لن تبدأ في الخروج من أزمة المالية العمومية التي دخلت فيها منذ سنة 2013 إلا عندما تتحكم في هذين الصنفين من العجز.
فالهام إذن ليس فقط متابعة الجهد داخل مؤشرات الميزانية بل الجرأة والقدرة على التحكم في العجز خارجها ..
هذا هو التحدي الأكبر لتونس حكومة وفاعلين اقتصاديين واجتماعيين وسائر المواطنين أيضا ..