قانون يتعلق بالقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري .
قد لا ندرك في أتون الصراعات السياسية التي تشق البلاد وتحت وطأة تفاقم الأزمات أن تونس بصدد التقدم نحو استكمال بناء ديمقراطي فعلي وجدي وشامل ..
لاشك أن الطريق مازالت طويلة وهي ليست معبدة بل مليئة بالصعاب والفخاخ ولكن تونس منذ دستور 2014 بصدد التقدم في استكمال الترسانة القانونية المناسبة لديمقراطية في القرن الواحد والعشرين ..
الديمقراطية ليست فقط انتخابات تعددية ونزيهة وإعلام حرّ وحياة حزبية وجمعياتية لا إقصاء فيها ، الديمقراطية أولا وقبل كل شيء هي منظومة قيم عمادها المواطنة ، وقوام المواطنة هو اعتبار كل أفراد الجنس البشري متساوين في الحقوق والواجبات دون أي صنف من أصناف التمييز لا العرقي ولا الديني ولا الاثني ولا اللغوي ولا الجندري ..
قيمة مشروع القانون هذا لا تكمن فقط في احتوائه على فصول تجرّم التمييز العنصري وتزجره بل قيمته في وجوده ذاته وفي دلالة هذا الوجود بالنسبة لتونس ..
لا وجود لبلاد في العالم لا تعرف أشكالا فاضحة أو ضمنية من التمييز العنصري ، الفرق فقط هو أن النظم الاستبدادية والمنظومات القيمية المهترئة لا تعترف بوجوده بل وتعتبر أن كل دعوة لمحاربته إنما هي تدخل أجنبي يهدف إلى تمزيق الوحدة الوطنية وإدخال البلبلة بين أبناء الشعب الواحد ..
وحدها الدول الديمقراطية العريقة تعترف بوجود أشكال التمييز العنصري هذه ووحدها الدول الديمقراطية تجعل من محاربة التمييز العنصري عنصرا أساسيا في سياساتها العمومية ولا تكتفي الدول الديمقراطية بزجر التمييز العنصري ومتابعته قضائيا ولكن تعمل على اجتثاثه من كل الفضاءات التربوية والثقافية والفنية والاجتماعية ..
التمييز العنصري آفة قد تسربت إلى كل الثقافات وجل الأذهان وانتزاعها ليس مسألة هينة وتتطلب عملا فكريا وثقافيا وبيداغوجيا متواصلا حتى يتم اجتثاث آفة العنصرية من ثقافة ما ..
وما لا ينبغي إنكاره في بلادنا أن العنصرية مكون من مكونات ثقافتنا العامة وسلوكياتنا اليومية، ولهجتنا العامية مليئة بالألفاظ والصور التعبيرية ذات الحضور العنصري الواضح، والحال أننا نستعملها للتندر والتفكه أو للتحقير والاشمئزاز ..
يكفي أن يراجع كل واحد منا قاموسه اللغوي النابي ليدرك أن جملة كبيرة منه تعود إلى ثقافة عنصرية تمييزية وتحقيرية ، بل مازلنا نستعمل في بعض المناطق كلمات سيد وعبد والكلمات المحقرة لسود البشرة من مواطنينا تكاد تكون عادية في استعمالاتنا اليومية ..
ادعاء أننا نحن العرب أو التونسيين ضحايا العنصرية عندما نعيش في الغرب وأننا براء من هذه الآفة هو محض افتراء وتغطية عن واقع ثقافي واجتماعي لا نريد رؤيته في بلداننا لأننا لسنا نحن ضحاياه بل لا نحس بالعنصرية إلا متى كنا نحن ضحاياها المباشرين ..
جزء من هذه الثقافة الإنكارية عبر عنه بعض نواب المجلس عند مناقشة مشروع القانون. واللافت للنظر أنهم كانوا من كتل مختلفة وعبروا جميعا عن نفس الأفكار ومفادها أن قانونا لتجريم التمييز العنصري مضر بسمعة البلاد لأنه يقول بأن هنالك في بلادنا عنصرية (هكذا !) والحال أننا ابرياء منها براءة الذئب من دم يوسف. وأما الحجة الثانية فكانت ان الأساسي هو التمييز الجهوي في بلادنا لا التمييز العنصري .. بل اشترط بعضهم للمصادقة على هذا القانون إضافة و«الجهوي» إلى «التمييز العنصري»..
لا جدال في وجود تمييز جهوي واجتماعي في بلادنا ولكن هل يلغي هذا التمييز ضد النساء مثلا ؟
إنها نفس الآليات التي تتحرك ضد الحريات الفردية بدعوى عدم استكمال الحريات العامة والحال انه لا صراع بين الأمرين بل استكمال الديمقراطية يستدعي تجاوز كل أصناف وأشكال التمييز في بلادنا عنصريا كان أو جندريا أو جهويا أو اجتماعيا ..
المهم على كل حال هو أن تونس قد خطت يوم أول أمس خطوة هامة في مسار ديمقراطي متحضر، وان هذا القانون كان تشاركيا بالفعل بين الوزارة الموؤودة التي كان يشرف عليها المهدي بن غربية والمجتمع المدني والمختصين في مجال القانون الدولي لحقوق الإنسان، وقد أنتج كل هذا مشروع قانون يحق لتونس الافتخار به ولكن العمل الفعلي والجدي ضد العنصرية يبدأ اليوم في الشارع ووسائل الإعلام والمدرسة والجديد اليوم هو وجود قانون يجرم العنصرية عبارات وسلوكيات ..
القانون لا يصنع الوعي ولكن يساهم كثيرا في اختصار المسافات ..