بمعطيات تبدو جديدة للمتابعين وهي وثائق قد تفيد وجود ما يسمى بـ«تنظيم خاص» لحركة النهضة عاد للاشتغال بعد ثورة 2011 وأن لهذا التنظيم علاقة باغتيال الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي (انظر التفاصيل في مقال نورة هدار صفحة 4).
وجاء الردّ الرسمي من حركة النهضة عشية يوم أمس حيث نفت جملة وتفصيلا هذه التهمة وبرّأت نفسها كلية من وجود أي «نشاط للحركة خارج إطار القانون المنظم للأحزاب» .
نحن لسنا أمام مسألة هيّنة وبغض النظر عن العلاقة الإجرامية من عدمها بين هذا «التنظيم الخاص» المفترض وعمليتي الاغتيال فإن الأساسي بالنسبة إلينا هو مسألة وجود هذا الجهاز الخاص من عدمه، والمطلوب من الجهاز القضائي التثبت في كل المعطيات التي قدمتها هيئة الدفاع عن الشهيدين بلعيد والبراهمي والقيام بكل التحقيقات والتحريات الضرورية حتى تتضح الحقيقة للجميع ..
مسألة «التنظيم الخاص» أو «السري» ليست مسألة مستجدة في تاريخ الجماعات الإسلامية وقد كوّن مؤسس «الإخوان المسلمون» حسن البنا أول «تنظيم خاص» في أربعينات القرن الماضي بحجة إعداد «المجاهدين» لتحرير فلسطين ولكن سرعان ما تحول هذا «الجهاز الخاص» كما كان يسمى الى تنظيم أعمال إرهابية داخل مصر كان أبرزها اغتيال رئيس وزراء مصر محمود فهمي النقراشي في 28 ديسمبر 1948 لان هذا الأخير أقدم على حل جماعة الإخوان في 8 ديسمبر من نفس السنة ..
وأعاد «الإخوان» الكرة في أكثر من مرة كان أشهرها ما سمي بتنظيم 1965 بقيادة سياسية وروحية لسيد قطب والذي حكم عليه بالإعدام مع جملة من مؤسسي هذا التنظيم الخاص..
والحركة الاسلامية في تونس قد دأبت بدورها على تأسيس «تنظيم خاص» وذلك منذ أواسط سبعينات القرن الماضي (انظر مقال حسان العيادي ) بدءا بالتسلل إلى المؤسسة العسكرية عبر توجيه بعض عناصر التنظيم إلى الأكاديمية العسكرية ، وسوف يحتل هذا التنظيم واجهة الأحداث فيما عرف بالمجموعة الأمنية والتي كانت تستعد للإقدام على انقلاب في 8 نوفمبر 1987 وكان وزير التعليم العالي السابق لحركة النهضة المرحوم المنصف بن سالم هو القائد السياسي لهذا التنظيم وقد اعترف بذلك في كتيب صدر بعد الثورة ولكن يبدو أن القيادات الإسلامية قد حالت دون توزيعه في بلادنا. كتاب «سنوات الجمر ، شهادات حية عن الاضطهاد الفكري واستهداف الإسلام في تونس» للمنصف بن سالم الواقع في 96 صفحة يحتوي شهادة على غاية كبرى من الأهمية وخاصة في فصل «مجموعة الإنقاذ الوطني» حيث يعطي تفاصيل عديدة عن تكوين هذه المجموعة من أمنيين وعسكريين ومدنيين وكيف كانت تشتغل تحت إشرافه السياسي لإعداد انقلاب عسكري في البلاد..
الإشكال ، كل الإشكال ، مع حركة النهضة هو رفضها الاعتراف بهذا الجزء من ماضيها بل وتبريره بصفة غير مقبولة سواء تعلق الأمر بهذه المجموعة أو بتفجيرات الساحل في سنة 1986 أو عملية باب سويقة في سنة 1992 ، وإنكار هذه الوقائع ورفض تحمل أية مسؤولية فيها هو الذي يثير شكوك خصومها في صدق نواياها ..
هل عاد «التنظيم الخاص» إلى الاشتغال بعد الثورة ؟ معطيات عديدة تؤكد محاولات جدية لتكوين « جهاز أمني» تابع للحركة .. ما هي مهامه ؟ وهل تقتصر فقط على تأمين الاجتماعات والقيادات أم له مهام استخباراتية ؟ وما علاقته بالعنف السياسي إبان حكم الترويكا وخاصة بما عرف برابطات حماية الثورة والتي اعتبرها راشد الغنوشي ، رئيس الحركة ، في ندوة صحفية بأنها تمثل «ضمير الثورة» وهل مازالت أجهزة مماثلة تشتغل لحساب النهضة ؟
كل هذه الأسئلة جدية ومشروعة ولا يمكن للحركة الإسلامية ان تنفيها بجرة قلم ، فجزء من الماضي موثق ومعترف به من بعض قيادات الصف الأول والإنكار الكلي والشامل لحركة النهضة لا يؤسس للحقيقة ولا يزيل كل الشكوك ..
بعد حادثة اغتيال النقراشي وانكشاف أمر الجهاز الخاص قال مؤسس الإخوان حسن البنا عن عناصر هذا الجهاز « ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين»..
والمهم اليوم أن تكشف حركة النهضة كل هذا الجانب الخفي من نشاطها على امتداد 40 سنة وان تعطي الضمانات الكافية بأنها قد قطعت نهائيا مع كل أشكال العمل السري ذي الطابع الأمني وأن يقوم القضاء بدوره كاملا في الاستقصاء والتحقيق وان تتعاون معه حركة النهضة بدلا من سياسة الإنكار التي تغذي الشكوك وتجعل الجراحات مفتوحة غائرة ..