في ندوة حوارية لجمعية نشاز: المساواة والحريات عند الساسة المثقفين

حصل يوم أمس بفضاء المؤسسة الألمانية «روزا لكسمبورغ» مسألة نادرة ولافتة في ذات الوقت:

حوار فكري وسياسي بين حمة الهمامي الناطق الرسمي باسم الجبهة الشعبية ومحمد عبو زعيم التيار الديمقراطي ومحمد القوماني عضو المكتب السياسي لحركة النهضة حول تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة بدعوة من جمعية «نشاز» وبإدارة حوار للمثقف اليساري فتحي بلحاج يحيى وبحضور كثيف لمثقفين وسياسيين ونشطاء جمعياتيين ..
حوار في العمق وفي مسائل جوهرية تهم الخيارات المجتمعية الكبرى بين ناشطين سياسيين في مواقع مختلفة وأحيانا متناقضة ، حوار هادئ ورصين بدءا من الحاضرين أنفسهم وانتهاء بالعدد الكبير من المتدخلين .. حوار يجعل من النقاش الجدي القائم على أفكار وقيم وحجج مسألة ممكنة بل وممتعة أيضا شد إليه الحضور على امتداد أكثر من أربع ساعات ..

مقاربات السياسيين الثلاثة مختلفة ولكنهم لم يختاروا السجال وتسجيل النقاط بل عبّر كل واحد منهم عن الهواجس الفكرية والسياسية التي دفعته لهذا الموقف أو ذاك ، فمحمد عبو مع خيار المساواة في الإرث لأنها بالنسبة إليه ، وكما أوضح ذلك في مناسبات عدة ، من الاستتباعات المباشرة والحتمية للدستور وخاصة في فصله الحادي والعشرين الذي يقر بوضوح مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين والمواطنات ، فالمسألة بالنسبة إليه ليست عقائدية ولا تستدعي موقفا خاصا من الدين بالسلب أو الإيجاب بل هي فقط من باب تنزيل الدستور وتفصيل مبادئه العامة في قوانين.

بالنسبة لمحمد عبو كان الأجدر أن نستكمل انسجام ترسانتنا القانونية مع الدستور ثم ننهي هذا العمل بإقرار المساواة في الميراث ولكن ما دامت هنالك مبادرة من رئيس الجمهورية فالواجب الإفصاح عن الموقف المبدئي بغض النظر عن حسابات ودوافع صاحب المبادرة ..

الناطق الرسمي باسم الجبهة الشعبية حمة الهمامي ركز في البداية على تداخل السياسي بالاجتماعي بالمجتمعي بالثقافي وأن أنصار نظرية «مش وقتو» لا يفهمون طبيعة النضال السياسي وحركة المجتمع إذ لا يمكن أن نفصل بين كل هذه الأبعاد وأن الحريات الفردية ليست في تضاد مع الحريات العامة والحقوق الاقتصادية والاجتماعية ومن ثمة كانت المساواة التامة والمطلقة مسألة جوهرية ولا يجوز للقوى اليسارية أن تتخلف عنها ..

والمساواة لا ينبغي أن تقتصر فقط على مستوى النقاش القانوني والقيمي بل لابد من دعمها بما اسماه الناطق الرسمي باسم الجبهة الشعبية بأم العلوم وهو التاريخ لكي يدرك مواطنونا بأن كثيرا من الأحكام التي تضفي عليها التيارات السلفية الاسلاموية مسحة القداسة إنما هي من نتاج التاريخ ، فكم من حكم ورد في القرآن وهو مما تواضع عليه عرب الجاهلية أو نادى به بعضهم كقطع يد السارق آو الجلد والرجم وحتى مبدأ «للذكر مثل حظ الأنثيين» كان يقول به بعض عرب الجاهلية ويطبقونه ، وهذه المعرفة العلمية بتاريخ حضارتنا العربية الإسلامية من شأنها أن تفتح أعين الناس على أوهام كثيرة وأن تبيّن لهم بأن التشريع مسألة مرتبطة بظروف عصرها في كل الثقافات والحضارات ..
محمد القوماني عضو المكتب السياسي لحركة النهضة وأحد الوجوه البارزة فيما كان يعرف بالإسلاميين التقدميين اعتبر أن القول بالمساواة مسألة لا يمكن مجادلتها في غاياتها ومقاصدها ولكن الخلاف يكمن بالأساس في مداخلها وانه بدلا من خوض معركة كبرى كالمساواة في الميراث سيكون من الأجدى خوض معارك صغرى كمراجعة ميراث الزوجة بعد وفاة قرينها إذ لا يعقل أن يكون في حدود الثمن رغم علمنا جميعا بأن للزوجة دورا أساسيا في تكوين الثروة العائلية وأضاف القوماني بأن هنالك قراءات عدة لآيات المواريث تسمح بالاجتهاد وبتطوير التشريع ولكن دون فرض تغيير جذري لم تقع التهيئة الفكرية والثقافية له..

استمع الجميع لمختلف هذه القراءات وتفاعلوا معها بالنقاش والإثراء دونما تشنج رغم التعدد الكبير لوجهات النظر وحتى عندما ضجر بعضهم بآراء البعض تدخل مدير الحوار فتحي بلحاج يحيى للتأكيد على حق كل فرد في التعبير عمّا يراه ما دام ذلك يحصل في كنف الاحترام المتبادل..

ما الذي يمنع بأن تدار كل خلافاتنا الفكرية والسياسية بمثل هذا الشكل الراقي ؟ مسألتان أساسيتان تتمثل أولاهما في اعتقاد بعض وسائل الإعلام خاصة التلفزية بأن حوارا كهذا ليس جذابا ولا يحرز نسب مشاهدة عالية ، وعلى افتراض صحة هذا الاعتقاد الذي لا نشاطره يكون لزاما على وسائل الإعلام التلفزية العمومية احتضان مثل هذا النقاش والأكيد أن نسب المشاهدة ستكون ارفع بكثير من التغطية المباشرة لكل أشغال الجلسات العامة لمجلس نواب الشعب على أهميتها الإعلامية ، ولكن قد يكون عائق ثان هنا وهو تحول سلوك السياسي عندما يبث الحوار على قناة واسعة الانتشار فتراه يبحث عن تسجيل الأهداف بدل المحاججة الهادئة.. ثم بعض السياسيين لا يتوفرون على زاد معرفي كاف لخوض مثل هذه النقاشات على العلن فيظهر للجميع تواضع بضاعتهم وقلة حجتهم ..

حوار الأمس وان لم يحضره سوى مائتي شخص فهو يبين أن لنا طينة من السياسيين يجمعون بين الفكري والسياسي وهم قادرون على التحاور مع بعضهم دون صياح أو سباب أو تخوين وان هذا الحوار يثري الفضاء العام ونخاله يجذب اليه فئات من الشباب والكهول ملّوا المهاترات السياسية الفارغة وقد يسمح بدوره بإحداث مصالحة مطلوبة بين الرأي العام والنخب السياسية اذ لا ديمقراطية دون سياسيين وأحزاب سياسية شريطة أن تكون هذه الأخيرة قادرة وحاملة لقيم ولأفكار ولمشاريع للبلاد..

سؤال سياسوي : هل نحن إزاء تقارب بين الجبهة الشعبية والتيار الديمقراطي ؟

سؤال ألح عليه بعض الحاضرين وأجاب عنه المعنيان بالأمر وفق المقولة الاخوانية الشهيرة لحسن البنا : نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا البعض الآخر فيما اختلفنا فيه ..

ولكن يبقى السؤال مطروحا ولكن لا نخال أن تقاربا سياسيا هاما سيحصل قبل انتخابات 2019..

المهم على كل أن لدينا جمعيات كـ«نشاز» تعنى بالرفع من مستوى النقاش العام في بلادنا ولدينا سياسيين مثقفين قادرين على رفع هذا التحدي، وكما يقال أول الغيث قطر...

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115