المؤسسات العمومية: بين سجال السياسيين وحاجيات التونسيين

من بين أبرز العناصر الظاهرة للأزمة الحادة بين اتحاد الشغل والحكومة اتهام الأولى للثانية بنيتها المبيتة في التفويت في

المؤسسات العمومية دون دراسة مسبقة وتشاور جدي مع الطرف الاجتماعي ، إذ لا تعدو المسألة أن تكون في رأي المنظمة الشغيلة سوى عملية سمسرة بممتلكات التونسيين ..

الإشكال في بلادنا أن جلّ التونسيين متفقون أن وضع المؤسسات العمومية لا يمكن أن يتواصل على ما هو عليه الآن وخاصة أن خسائرها المتراكمة قد تجاوزت 6 مليار دينار ، وهنالك إجماع آخر بأن هنالك وضعيات مختلفة للغاية في المؤسسات العمومية وإن إصلاحها الفعلي يستوجب دراستها حالة بحالة .

السؤال بسيط لِمَ بقينا في مستوى السجال غير المفيد ولم نبدأ بعد في دراسة الوضعيات المختلفة لكل المؤسسات العمومية ؟

يبيّن هذا الملف ، كما غيره ، ضعف العقلانية في فضائنا العام وولعنا بالصراعات الكلامية بدل البحث الجدي عن حلول عملية ملموسة لمشاكل البلاد ..

هل نملك تقييما أوليا لما نعتبره نجاعة ومردودية مؤسساتنا العمومية، أي الحجم الفعلي لاحتياجاتها من الموارد البشرية وكيفية التعامل مع ما يزيد عن هذه الحاجة وما ينقصها من كفاءات لتنمية مواردها ؟

نحن لدينا فقط بعض المقاييس الدولية ولكن لم ندرس ، على سبيل المثال، وضعية الشركة الوطنية للسكك الحديدية لنرى كم تحتاج فعلا من موارد بشرية وما هو التأهيل الضروري لبعض أصناف المهن داخلها وماهي نسبة الاستغلال المثلى لمعداتها وكيف بإمكانها الاقتصاد في الكلفة مع تحسين الجودة ؟

ثم والاهم من هذا كله كيف تتعامل هذه الشركة في قطاع لا تتنافس فيه مع مؤسسات سكك حديدية أخرى ولكنها تتنافس مع كل وسائل النقل الأخرى للأفراد وللبضائع كذلك وكيف عليها أن تسعى لافتكاك أسواق داخلية وكذلك خارجية ببيع خبراتها المختلفة لكل من يحتاج ذلك ..

إشترك في النسخة الرقمية للمغرب

اشترك في النسخة الرقمية للمغرب ابتداء من 25 د

قد تختار الدولة تعريفة للتذاكر تجعل من هذه الشركة خاسرة موضوعيا، ولكن كم ؟ مليون دينار أم 100 مليون دينار ؟ ما هي الخسارة الضرورية الناتجة عن عوامل موضوعية وما هو حجم الخسائر المتأتي من سوء توظيف الموارد البشرية وسوء استغلال جملة الآليات والمعدات المتوفرة لديها ..

ثم لِمَ نفرض على هذه الشركة ، وعلى سواها أيضا ، التعامل كإدارة عمومية في البيع والشراء والانتداب والتصرف في كل مواردها ؟ لِمَ لا نعطيها مرونة التصرف كما هو الشأن عند القطاع الخاص مع ضبط بعض المعايير الدنيا ثم المراقبة البعدية عبر مجلس الإدارة والهياكل الرقابية للدولة وللقضاء إن لزم الأمر ؟ لِمَ نكبل مؤسساتنا العمومية بترسانة من الإجراءات البالية ثم نريدها أن تكون تنافسية في ذات الوقت ؟

نفس هذه الملاحظات تنطبق على كل المؤسسات العمومية في كل القطاعات فعقلانية التصرف فيها لا تعني خوصصتها بأي شكل من الأشكال ولكن تعني تغيير ثقافة التصرف فيها وإعدادها لمناخ تنافسي ولو كان جزئيا واعتبارها مؤسسات اقتصادية أولا وقبل كل شيء مطالبة بالإنتاجية والمردودية والتسيير العقلاني حتى وإن طالبناها بأن تتحمل أعباء سوق لا تحكمها قوانين السوق ..وهذا يصلح على الغالبية الساحقة من مؤسساتنا العمومية ..

وهنا لابدّ من التركيز على التمييز الضروري بين المؤسسة العمومية والخدمة العمومية ، فالثانية لا تخص المؤسسة العمومية بل الدولة كان تطالب شركات النقل التابعة لها بتأمين رحلات خاسرة ولكن بهدف تقديم خدمة عمومية للمواطنين والمنطق يفترض ان يضبط عقد اهداف واضح العلاقة بين الدولة وكل مؤسسة عمومية على حدة وان تتكفل الدولة بالخسارة المنجرة عن كل خدمة عمومية تطلبها من هذه المؤسسات دون كلفتها الحقيقية وأن تجبر فيما عدا ذاك على اعتماد مقاييس الربحية والنجاعة الاقتصادية ..

إشترك في النسخة الرقمية للمغرب

اشترك في النسخة الرقمية للمغرب ابتداء من 25 د

لنأخذ مثالا على ذلك :
يمكن تصور أن الرحلات الجوية الداخلية تكون بسعر دون كلفتها الحقيقية وذلك بغرض تشجيع المواطنين على التنقل السريع بين مختلف أنحاء البلاد ولكن جل الخطوط الأخرى ينبغي أن تكون ربحية ولديها قدرة تنافسية لاسيما أن بلادنا تستعد للدخول في معاهدة السماء المفتوحة ..

كل هذا يمكن أن يحصل دون كبير مشاكل وسوف ينعكس ايجابا على مردودية كل هذه المؤسسات ويخفف من أعباء الميزانية في مرحلة أولى ثم تعود بعض هذه المؤسسات كما كانت في الماضي ، لتدر أموالا مهمة تسمح بتنمية أفضل للبلاد ..ولكن إن ارتبطت جل المؤسسات العمومية بخدمة عمومية (النقل ، الصحة ، الطاقة المنزلية والصناعية ، الماء الصالح للشراب .. ) فبعضها لا علاقة له البتة بالخدمة العمومية بل فقط بالقطاع الصناعي التنافسي .. فهل من شيء يفسر احتكار الدولة للتبغ أو للكحول ؟ وهل من الخيانة الوطنية أن نبحث عن شريك استراتيجي في بعضها أو أن نعرضها على الخوصصة ولاسيما لرأسمال أجنبي حتى نوفر مداخيل هامة بالعملة الصعبة بالإضافة إلى الخبرات الضرورية لذلك؟!

هل تقتضي المصلحة الوطنية الإنتاج الحصري للسجائر من قبل الدولة ؟ أليس من الأجدى البحث عن شريك استراتيجي يوفر مباشرة بعض مليارات الدنانير ويعصر آلة إنتاج ويدفع الضرائب ويشغل أبناء البلد ؟

لو تركنا على جانب الهواجس العقائدية والحلول القصووية واعتمدنا مقاربة عملية براغماتية تراعي جودة الخدمة وعقلانية التصرف والتحكم في الكلفة والشراكة مع الخواص متى كان ذلك مفيدا والتفويت أيضا لو تأكدنا من جدوى هذا الاختيار ، ألا يكون ذلك أفضل للجميع ؟

هل ينبغي أن نخوض حروبا كلامية وسياسية لمسألة الفيصل فيها المصلحة العاجلة والآجلة للبلاد ؟

الحوار هام وأساسي ولكنه عندما يصبح غاية في حد ذاته ويعيق كل إصلاح ممكن يكون ضرره أكبر من نفعه ..

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115