وحيدة لحكم البلاد ولإخراجها من مشاكلها المزمنة ، توافق وضع «الشيخان» لبنته الأولى في لقاء باريس الشهير منذ خمس سنوات ومازالت حركة النهضة تعرب عن تمسكها به رغم الشكوك المتزايدة لحليفها حول صدق نواياها..
وفي نفس الوقت أصبح نقد النداء ساحة سياسية مستباحة داخل النهضة بعد أن كان احد الخطوط الحمر وهي مباحة ليس فقط لبعض «الأبناء المتمردين» كعبد اللطيف المكي ومحمد بن سالم وعبد الحميد الجلاصي بل حتى كذلك لهياكلها التنظيمية وابرز ممثليهم كعلي العريض الذي قال مؤخرا بأن قيادة النداء تريد إسقاط حكومة الشاهد بأسنان النهضة ، وهذا غير معقول ..
والسؤال اليوم هو هل مازالت حركة النهضة مقتنعة بأن النداء ، بقيادته الحالية ، هو شريكها الأساسي في التوافق الذي تدعو إليه أم أنها تبحث عن شريك آخر أكثر صلابة وديمومة من الحزب الفائز بانتخابات 2014 ؟
ينبغي أن نعلم أن حركة النهضة جدية وجدية للغاية عندما تقول بأنها متمسكة بالتوافق وبأوسع توافق ممكن سياسيا واجتماعيا ، والنهضة تخشى من شخصنة التوافق وتريد أن ينتقل من التوافق بين «الشيخين» إلى التوافق بين الحزبين وتسعى جاهدة لكي تكون لها علاقات ودية مع المنظمتين الاجتماعيتين الكبيرتين : اتحاد الشغل واتحاد الأعراف وخاصة مع المنظمة الشغيلة التي اكتوت النهضة بغضبها سنوات حكم الترويكا وأضحت منذ تلك الفترة تحرص على الود معها حتى ولو كان من جانب واحد ..
ومصلحة النهضة واضحة في كل هذا ، فهذا التوافق السياسي والاجتماعي الواسع حتى وان كان شكليا فهو يحميها من ويلات العزلة ويسمح لها بأن تكون في السلطة دون أن يضطرها إلى الاضطلاع بها لوحدها حتى لو فازت في الانتخابات العامة..
فالتوافق هو المظلة الحامية للحركة الإسلامية وهو شرط انغراسها التدريجي في مفاصل الحكم وشرط ضمان مقبوليتها المجتمعية ، فالنهضة – إلى يوم الناس هذا – ليست حزبا كبقية الأحزاب وهي تثير مخاوف وارتياب جزء هام من التونسيين كما أنها لم تعد الطفل المدلل لصناع القرار الغربيين ولذلك تراها محتاجة إلى مظلة التوافق على الأقل لعقد من الزمن.. ولكن النهضة لم تنجح بعد في تطبيع علاقتها مع اتحاد الشغل وهذا يمثل إشكالا كبيرا لديها ثم كيف سيكون مآل التوافق بعد مغادرة الباجي قائد السبسي قصر قرطاج ؟
هذه هي الإشكاليات الحارقة التي تؤرق الأدمغة المفكرة في مون بليزير (المقر المركزي للحركة الإسلامية) منذ أكثر من السنة وخاصة بعد أن تأكد الجميع أن رئيس الدولة لن يقدم على الترشح لولاية رئاسية ثانية ..
قبل سنتين من اليوم جواب النهضة كان واضحا : التحالف مع قائد السبسي الأب سيستمر مع قائد السبسي الابن خاصة وأنه أقصى «الاستئصاليين» من حزبه (في إشارة خاصة إلى الثنائي محسن مرزوق ورضا بلحاج) وأحاط نفسه ببعض «الثعالبيين» (نسبة إلى عبد العزيز الثعالبي مؤسس الحزب الحر الدستوري ) المنظرين للأب المشترك للإسلاميين وللدستوريين ، ولكن الانتخابات الجزئية في دائرة ألمانيا في ديسمبر 2017 وخاصة بلديات ماي 2018 جعلت النهضة تتساءل بقوة حول قدرة قيادة النداء الحالية على لعب دور المظلة التوافقية لا فقط بالاعتماد على التهجمات التي طالت الحركة الإسلامية اثر الهزيمة الندائية في ألمانيا ولكن بالأساس دور المظلة لا يمكن أن يلعبه إلا حزب قوي قادر على الفوز وأيضا على التقدم الانتخابي على حركة النهضة أما إذا ما تراجع كثيرا وخاصة في التشريعية القادمة فسيجبر هذا حركة النهضة على الاضطلاع بأعباء الحكم من جديد وهذا ما لا تريده الحركة الإسلامية وما هي غير مؤهلة له بالمرة لا سياسيا ولا إيديولوجيا ولا كذلك على مستوى الكفاءات البشرية ..
حلم النهضة الدفين هو أن تكون الانتخابات التشريعية في 2019 و2024 على الأقل على شاكلة ما حصل في 2014 ولكن نداء 2018 لم يعد نداء 2014 وما تخشاه حركة النهضة هو انهيار حليفها الظرفي في 2019 وتكرار سيناريو 2011..
هنا يمكن أن نفهم اهتمام حركة النهضة بالمشروع السياسي المضمر ليوسف الشاهد وإدراكها أن احترازها عليه في صائفة 2017 بتحريض من حليفها آنذاك حافظ قائد السبسي ومجموعته لم يكن صائبا ..
ولقد عمل بعض النهضويين القريبين من رئيس الحكومة على تطبيع العلاقة بين القصبة ومون بليزير قبل الأزمة السياسية الأخيرة وكأنّ بحركة النهضة قد وجدت إجابة أولية عن مخاوفها الأساسية فقد يكون يوسف الشاهد المواصل غير المنتظر لهذا التوافق الاستراتيجي الذي تبحث عنه الحركة الإسلامية ولكن لهذا شروط عدة أهمها قدرة الشاهد على افتكاك القاعدة السوسيولوجية للنداء ، وهذه ليست عملية هينة وتحتاج إلى وجود آلة تشتغل لفائدة صاحب القصبة دون أن تعلن عن نفسها بصفة مبكرة ..
لسنا ندري هل قررت الحركة الإسلامية فعلا المراهنة على يوسف الشاهد ومشروعه بدل النداء ورئيسه المؤسس ولكن مساندتها له ومنعها اسقاط الحكومة في الربيع الماضي رغم إلحاح أهم شريك لها على ذلك قد منح موضوعيا ليوسف الشاهد إمكانية إنجاح مشروعه بإبراز قدرته على الصمود أولا وعلى الهجوم على خصمه المباشر ثانيا (تلك الكلمة التلفزية الرمضانية ضد حافظ قائد السبسي ) واختراق جملة من الأحزاب ونوابها من النداء وآفاق والمشروع.. كل هذا لم يكن ممكنا لو تم إسقاط حكومة الشاهد في جوان الماضي ..
لا نعتقد ان حركة النهضة قبل أكثر من سنة من الانتخابات التشريعية ستضع بيضها في سلة واحدة خاصة وأنها تخشى من تحالف مع الشاهد أن تكون نتيجته مواجهة مع الحركة النقابية ..ولكن الواضح أن النهضة قد استعدت قبل غيرها لطي صفحة الباجي قائد السبسي حتى وان استعملت في ذلك كل التعبيرات الديبلوماسية المعسولة الممكنة .. وبعد ذلك الاستعداد لكل تحول ممكن في موازين القوى السياسية والأكيد أن النهضة ستكون مع المنتصر ، ايا كان ذلك المنتصر ..