كل التونسيات والتونسيين كانوا ينتظرون خطاب رئيس الدولة في 13 أوت بمناسبة الذكرى 62 لإصدار مجلة الأحوال الشخصية ، والجديد هذه السنة هو تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة التي أذن ببعثها رئيس الدولة في 13 اوت 2017 لتنقيح وتعديل ما يخالف في ترسانتنا القانونية مقتضيات المساواة وحماية الحريات الفردية .. لقد كان سقف الانتظارات مرتفعا عند البعض بينما كان البعض الآخر يمني النفس بوأد مقترحات التقرير في المهد ..ما سيبقى في الأذهان هو اقتراح رئيس الدولة في خطابه المقروء المساواة في الإرث قانونا مع ترك حرية الاختيار للمُوَرِّث إن هو أراد في قائم حياته التنصيص على قسمة تركته وفق المنظومة الحالية وعمادها قاعدة «للذكر مثل حظ الأنثيين ».
إذن في الخطاب المقروء (وكما تعلمون العهدة دوما على الخطاب المقروء لا على الخطاب المكتوب) هنالك مقترح وحيد من تقرير اللجنة سيتم إخراجه في صيغة مشروع قانون، بينما سيتم تعميق النظر في عشرات المقترحات الأخرى للجنة وفق مطالبة بعضهم بهذا و بعضهم هنا تحيل بالأساس إلى حركة النهضة .
بالطبع لا يمكن التقليل مطلقا من هذه الخطوة الجريئة ، فالمساواة في الميراث حتى مع هذه الرخصة المتروكة للمُوَرِّث ثورة فكرية ودينية واجتماعية كبرى ولكن لم يكن بإمكان رئيس الدولة النزول تحت هذا السقف اذ هو من تحدث منذ سنة عن ضرورة هذه المساواة ،وكما قال منذ يوم أمس المساواة في الميراث لم تكن تستدعي تشكيل لجنة بل كان بإمكانه أن يبادر بها مباشرة ولكنه فضل التأني وكذلك توسيع النظر إلى مجال أرحب واعم وهو الحريات الفردية وإن لم يأخذ حيال المقترحات الواردة في التقرير اي التزام زمني بل دعا فقط الى تعميق الحوار حول هذه القضايا بما يفيد بان رئاسة الجمهورية، جهة المبادرة الأولى، ليست ملزمة باي اقتراح وارد في نص هذا التقرير المشتمل على 230 صفحة باستثناء المساواة في الميراث فقط لا غير. لقد كنا نعتقد أن رئيس الدولة سيأخذ على عاتقه المبادرة بجملة من مشاريع قوانين جلها لا يمثل إشكالا كبيرا في مجال الحريات الفردية والمساواة، فما كل مرة تفتح نافذة تاريخية بمثل هذه الأهمية وتأجيل المبادرة التشريعية إلى اجل غير محدد سوف ينتج عنه حتما وضع كل هذه الأفكار والمقترحات بين قوسين خاصة وان رئيس الدولة سيدخل في الأشهر القادمة في السنة الأخيرة من عهدته الانتخابية ولا نعتقد ان ما لم يقدر عليه اليوم سيكون قادرا على فعله سنة 2019.
يبقى ان نقول بأن التأسيس القانوني والمنهجي للمساواة في الميراث الذي قام به رئيس الدولة يستحق التحية اذ كان دقيقا وواضحا : فتونس دولة مدنية والنص المرجعي فيها هو الدستور لا غير ورئيس الجمهورية باعتباره رئيس الدولة مطالب بتطبيق كل ما جاء في الدستور بما في ذلك المساواة بين المرأة والرجل دون تمييز..
والتأسيس النظري كان أوضح وأدق في نص الخطاب المكتوب وقد أضاف فيه رئيس الدولة جملة من الاعتبارات المهمة من بينها أن تنقيح قانون المواريث إنما هو تنقيح لقانون وضعي لا لنص سماوي وان قانون المواريث الحالي الموجود في مجلة الأحوال الشخصية قد اقر جملة من الاجتهادات تخالف ظاهر النصوص الدينية ورغم ذلك لا يعترض عليها أحد الآن ..
للإنصاف نقول بأن المضمون الفكري لخطاب الباجي قائد السبسي سواء في صيغته الشفوية أو الكتابية هو مضمون واضح يراعي توازنات المجتمع ولكنه يدعوه في نفس الوقت الى استئناف النفس الإصلاحي حتى تبقى الريادة التونسية قائمة فكريا واجتماعيا ولكن هنالك مسألة تثير بعض القلق وهي عدم تنديد رئيس الدولة بالوضوح الكافي بحملات التشويه والتكفير والتهديد التي تعرضت لها لجنة الحريات الفردية والمساواة وخاصة رئيستها الاستاذة بشرى بلحاج حميدة .. صحيح أن رئيس الدولة قد أشاد بعمل اللجنة وبعمق الأفكار والاجتهادات ثم قام بتوسيم أعضائها ولكن كنا نتمنى أن يكون رمز الدولة صارما في التنديد بكل هذه الحملة الممنهجة لتشويه أعمال اللجنة وأعضائها ، فوجدنا أنفسنا أمام صمت رهيب بدأ من المرفق القضائي واستمر مع الوزارات المعنية مباشرة بوضع حد لهذه الحملات ونقصد بها وزارات العدل والداخلية والشؤون الدينية لنصل إلى رئاسة الدولة والتي لا يتحدث فيها رمزها الأول الا عن حوار ايجابي وكأننا نعيش في غير البلاد التي يعيش فيها كبار المسؤولين في الدولة .
وفي هذا لا فرق يذكر بين الصيغتين الشفوية والكتابية للخطاب .
ولكن النقطة اللافتة جدا في خطاب رئيس الدولة ،باستثناء مسألة المساواة في الميراث ، هي تركيزه الكبير على حركة النهضة ..
لقد ذكر الباجي قائد السبسي بأن دستور 2014 قد وضع في عهد الترويكا بداية ولكن مع شبه إجماع لكل القوى السياسية وانه باستكماله شروط المساواة القانونية إنما يساهم في هذا الدستور بصفة بعدية ثم تحدث مطولا عن اعتراضات حركة النهضة على بعض ما جاء في تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة خاصة في ما يتعلق بالمساواة في الميراث وقال رئيس الدولة انه انزعج لهذا رغم شكره للحركة الإسلامية التي وافته كتابة برأيها في مختلف مقترحات هذا التقرير. وقد فهمنا من سياق حديثه انه أرجأ الحسم في كل المقترحات الواردة في مجال الحريات الفردية أخذا بخاطر حركة النهضة التي طالبته بضرورة تعميق النظر والنقاش في هذه القضايا. ثم أشار إلى الانضباط شبه العسكري لكتلة النهضة مستشهدا بكثافة تصويت نوابها لفائدة سدّ الشغور في وزارة الداخلية بما يفهم منه وكأنه طلب لتصرف مماثل إزاء مقترح رئيس الدولة. كما شدد قائد السبسي على «التعامل» مع حركة النهضة طيلة كامل هذه العهدة الانتخابية وأفاد بأنه يريد لهذا «التعامل» أن يتواصل ولكنه لم يعد متأكدا من ذلك خاصة إذا ما اعترضت النهضة في البرلمان على مشروع قانون المساواة في الميراث ..
اللافت للنظر هنا أن الخطاب الرئاسي المكتوب لم يتعرض ولو في مناسبة واحدة لحركة النهضة ولكن بما أن الخطاب الشفوي هو وحده الخطاب المعتمد فقد يكون قد حدث صبيحة يوم أمس ما غير في ترتيب الخطاب الرئاسي وأولوياته وقد يكون رئيس الدولة قد تفطن إلى ما اعتبره ثغرة في الخطاب المكتوب فأراد تلافيها في الخطاب الشفوي، ولكن الانطباع الأول الذي يتركه هذا التركيز المفرط على حركة النهضة هو إقرار لا واع بالضعف أمامها وبأنها أصبحت خاصة منذ اندلاع الأزمة السياسية الأخيرة الفاعل الرئيسي سياسيا وانه قد أصبح بيدها الحل والربط بغض النظر عن رغبة صاحب قرطاج وهذا يحصل للمرة الأولى منذ بدايات «التعامل» بين رئيس الدولة والحركة الإسلامية في سنة 2015..
على كل حال لا يجب أن تحجب عنا هذه الاعتبارات السياسية التكتيكية والإستراتيجية الأهمية البالغة للمضمون الفكري والاجتماعي لمسألة المساواة في الميراث وما تثيره في المخيال الجماعي التونسي ..
ما نأسف له فقط هو غياب انخراط مختلف أجهزة الدولة في هذا النفس الإصلاحي وعدم تحمل حزب رئيس الدولة أية مسؤولية في الدفاع عن تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة وفي التنديد بحملات التشويه والتخوين والتكفير التي طالتها، وفي إحجام كل رموزه عن التعبير عن مواقفهم من هذه القضايا الاجتماعية والفكرية والقيمية الأساسية .
أيا يكن من أمر فقد ساهم رئيس الدولة في دفع نسق الإصلاح الفكري والاجتماعي في بلادنا والآن الكرة عند الجميع والدولة لن تعوض القوى الحية في المجتمع للدفاع عن الحريات والمساواة ..
المعركة تبدأ الآن ..