ولكن خرج في أحيان عديدة إلى دوائر الادعاء بالباطل والسباب والشتم بل والتكفير والتهديد بالسحل والقتل هذا دون الحديث عما يدور في خلد اليعاقبة أو اليعقوبيين (المقصود هنا هو فقط جمع يعقوب لا غير) من حسابات وتكتيكات وتوظيفات مضادة بغية مزيد التحكم في السلطة اليوم وغدا بعيدا عن هواجس القيم والأفكار .
لقد اتضح بالكاشف أن ما حاولنا طمسه في «توافقات» دستور 2014 قد عاد إلى السطح من جديد وبطريقة أشد عنفا وقوة وأصبح عنوان الاستقطاب الجديد هو الصراع بين «ثوابت الإسلام» والتي لم تسجل حضورها في توطئة الدستور بل عوضها مفهوم «مقاصد الإسلام» وبين الدولة المدنية كما حددها الفصل الثاني..ولكن هذا السجال يدور رحاه بين نخب ونخب مضادة ، نخب مضادة تبذل قصارى جهدها لتلافي هزائمها أثناء صياغة الدستور لتعيد من نافذة رفضها لتقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة كل ذلك الزخم العقائدي الذي طوره الإسلام السياسي في بعديه السلفي والاخواني زهاء القرن من الزمن ..
نحن نعيش بواكير حرب دينية باردة لم نخضها بعمق وجدية إلى نهايتها منذ أواسط القرن الثامن عشر عندما استيقظ أصحاب القلم في العالمين العربي والإسلامي على وقع الهزيمة الحضارية والعسكرية والعلمية، هزيمة طالما غطاها التفوق العسكري العثماني ولكن هذه الهزيمة الحضارية بدأت تتشكل ملامحها منذ عصر النهضة الأوروبية أي منذ القرن السادس عشر على اقل تقدير ..
من حقنا أن نعتبر أننا «استثناء» تاريخي وان قانون الكون والفساد لا ينطبق علينا ما دمنا «خير امة أخرجت للناس». ولكن الواقع الملموس لشعوبنا ودولنا منذ قرون يثبت بوضوح أن ثقافتنا ومعارفنا وقيمنا ونظم مجتمعنا لم تتطور ، وأيا كان حكمنا على هذه التطورات ، الا بالاحتكاك والانفعال مع الخارج بل إن كل الحركات التي تدعي تشبثا بالهوية إنما تشكلت عبر مفاهيم وتقنيات تشكلت عبر هذا الانفعال الحضاري والذي أصبحنا نطلق عليه « التثاقف» حتى نقنع أنفسنا أننا لا ننطلق فقط من موقع الانفعال فقط بل الفعل أيضا .
وما يصح على الحضارة العربية الإسلامية يصح على كل حضارات الدنيا بما في ذلك الحضارة الغربية التي كانت في طور الانفعال الثقافي على امتداد قرون بل إنها لم تؤسس نهضتها الأدبية والدينية والفلسفية إلا بفضل انفعالها بإسهامات العرب والمسلمين وأساسا عبر ما عرف في أوروبا بالتيار الرشدي نسبة إلى فيلسوف الأندلس الكبير ابن رشد .
إن الزمن التاريخي طويل المدى مهم لوضع السياقات التي تحدد حركة الأفكار وتطور القيم وانبجاس المفاهيم الجديدة..
إن كل نقاش جدي لا يمكن له أن يهمل كل هذه الأبعاد وأن ينحصر في مستوى الكتب وأن يقتصر على جملة من الشواهد المنتقاة من النصوص المقدسة لتكون حججا لا دافع لها وتفرض على الناس باعتبارها أوامر ونواهي إلهية سرمدية .
إننا نحتاج إلى نقاش فكري وحضاري بعيدا عن حسابات السياسة واكراهاتها وعن غوغائية الجهلة الذين أن سمعت فصاحة بعضهم الظاهرة قد يعجبك قولهم وقد يذهب بك الظن أن حسن ترصيف الكلمات إنما هو حسن ترتيب الأفكار .. ولكن ترديد أقوال القدامى هو في احسن حالاته نسخ لما فقد شروط وجوده ..نحن نحتاج لابتكار التدين المتلائم مع مسارنا التاريخي المخصوص ومع كل التحولات الجذرية التي شهدتها مجتمعاتنا بفعل مختلف موجات التحديث الفكري والاجتماعي التي تعاقبت علينا .إن اكبر ظلم لتاريخ الإسلام وحضارته هذا النقاش القائم على سرد آيات وأحاديث وأقوال فقهاء دون أي تدبر أو تفهم للسياقات الفلسفية والكلامية والاجتماعية ودون أي فهم لما طرأ على حياة الأفكار والقيم .القرآن ينطق به الرجال كما أثر عن الخليفة الراشد علي بن أبي طالب وهم ينطقون به وفق ما أوتوا من علم ومعرفة .. ما كان بديهيا عند علماء الإسلام من مختلف المذاهب في الفترة التوهجية لحضارة الإسلام أن الفهم يأتي دوما قبل موضوع التفهم والعقل دوما سابق عن النقل لان النقل لا يفهم الا بالعقل .
ماذا يريد هؤلاء الرافضون لمبدإ المساواة ولمفهوم الحرية ؟ هل يريدون فعلا الحقيقة؟ هل يريدون حقا الاحتكام لما يعتبرونه أحكام القرآن الكريم السرمدية؟ هل أعطوا أنفسهم فرصة للتفكر والتدبر؟ لم يقبلون بأفكار جزائية خالف ظاهر القرآن مخالفة واضحة وصريحة كأحكام السرقة على سبيل المثال ؟ أم أنهم يظهرون لنا ما لا يبطنون؟ هل يعتبر هؤلاء ان مجتمعنا ودولتنا قد خرجا عن الملة لأنهما لا يطبقان أحكاما عديدة واردة في القرآن والسنة ؟ أم أن الإيمان ارتبط عندهم فقط بمسألة المواريث وبكل ما يتعلق بالمرأة جسدا وروحا وحقوقا وحريات؟
هل تساءل هؤلاء حول مسألة بسيطة : كيف يعيش المتدين علاقته مع فريضة الزكاة ؟ ونتحدث عنها عن فريضة وأحد أركان الإسلام الخمسة لا عن توزيع تركة.. لم لا يطالب هؤلاء بفرض الزكاة ؟ فنحن هنا أمام فريضة أساسية ولكن السياق التاريخي جعلها موكولة لاجتهاد الفرد لا لسياسة الدولة فهي لا تنظم بقانون وضعي ولا تستعمل الدولة سطوتها لفرضها على الجميع ،بينما الوضع مختلف تماما مع الضرائب فهي منظمة بقوانين وكل من يرفض الانصياع لها يعاقب .
لو كانوا فعلا صادقين ومعنيين فقط باحترام أحكام الدين لما وقفوا ضد فكرة تقر المساواة وتسمح لكل فرد منا بعدم الالتزام بها شريطة تصريح كتابي.
ماذا يريد منا هؤلاء ؟ إنهم يريدون فقط سلب حريتنا وحرماننا من مساواة تامة وفعلية .. ولفائدة من يحصل كل هذا ؟ لفائدة المولى عزّ وجلّ ؟ ان الله غني عن العالمين .. إنما يحصل كل هذا لفائدة هؤلاء الحالمين بكابوس الدولة الدينية التي تتحكم في حريات الأفراد وفي ضمائرهم . إنهم مشروع سلطة كهنوتية في دين لا كهنوت فيه !!
ان كل دعاة الإسلام السياسي بوجهيه السلفي والاخواني لا يفقهون لا جوهر الدين ولا جوهر الإنسان ، فالدين في جوهره رقي روحي والإنسان لا يكون إنسانا إلا باستقلال إرادته اي بحريته باعتبارها انقطاعا في نظام الأسباب وحرية الفرد لا معنى لها إن لم يتساو فيها كل الأفراد بغض النظر عن كل تمييز أو عارض ثقافي أو جندري أو ديني أو عرقي أو لغوي ..
كان الفقيد محمد الطالبي يردد دوما إنما الدين حرية . فعلا لا معنى لدين لا يتأسس ولا يرعى الحرية ، حرية الفرد في معتقده وضميره وجسده . ولا معنى لحرية تتأسس على التمييز بين البشر ايا كانت الدواعي التي يستند إليها هؤلاء أو غيرهم .الدين حرية والحرية مساواة وان ضاعت الحرية ضاع كل شيء .