فيها بالخصوص أن أسعار الاستهلاك قد ارتفعت خلال شهر جويلية الماضي بـ%0.6 مقارنة بشهر جوان من نفس السنة ولكن رغم تواصل هذا الارتفاع فإن نسبة التضخم قد انخفضت من %7.8 في جوان الماضي إلى %7.5 في جويلية ويعود السبب في ذلك إلى أن نسبة ارتفاع الأسعار تحسب مقارنة بالشهر السابق بينما يحتسب التضخم مقارنة بالسنة السابقة أي بين جويلية 2018 وجويلية 2017، وما يفسر هذا التراجع النسبي في التضخم هو الارتفاع الهام في الأسعار عند الاستهلاك في جويلية للسنة الفارطة حيث كان في حدود %0.9.
والسؤال الهام هنا هل نحن أمام بداية تراجع دائم للتضخم آم أننا حيال تحسن ظرفي فقط ؟..
وهل هنالك من دور في هذا التراجع للترفيع في نسبة الفائدة المديرية للبنك المركزي أم لا ؟
يقول المتابعون بدقة لمؤشر التضخم ومكوناته أننا إزاء تحسن ملحوظ ولكنه ظرفي ولا يتوقع أن يواصل في مساره التنازلي بل التخوف كل التخوف ، هو في عودة الضغوط التضخمية خلال الثلاثي الأخير من سنة 2018 بحكم تواصل ارتفاع مواد وخدمات النقل نتيجة للتحيين الفصلي لأسعار المحروقات كما ان العودة المدرسية ستسهم بدورها في هذه الضغوط التضخمية وكل هذا بالإضافة إلى التضخم المستورد بحكم تراجع قيمة الدينار مقارنة بأهم العملات الأجنبية ..
فالتضخم ، بحسب الخبراء صندوق النقد الدولي ، قد يقترب من عتبة %10 في نهاية هذه السنة وهو لن يبدا في التراجع الفعلي والمستمر إلا مع بداية سنة 2019 شريطة ألا يتضمن قانون المالية للسنة القادمة ترفيعا في نسب الاداءات غير المباشرة والتي تؤثر كما هو معلوم في ارتفاع أسعار كل المواد الاستهلاكية ..
أما عن دور الترفيع في نسبة الفائدة المديرية للبنك المركزي فهذا لا جدال فيه ولكن نتحدث هنا عن الترفيع الحاصل في نهاية 2017 لا عن الترفيع بمائة نقطة قاعدية لشهر جوان الماضي..
وللتذكير فإن البنك المركزي كان قد رفع في مناسبتين من نسبة الفائدة المديرية في سنة 2017 لتنتقل من %4 إلى %5 والمعلوم أن تأثير هذا الترفيع على الحدّ من التضخم تبدأ آثاره الأولى بعد سنة أو تسعة أشهر ، كما أن البنك المركزي قد رفع في سنة 2018 في هذه النسبة في مناسبتين كانت الأولى في مارس بـ75 نقطة قاعدية والثانية في جوان بـ100 نقطة وهكذا أصبحت نسبة الفائدة المديرية اليوم في حدود 6.75 أما نسبة الفائدة في السوق المالية (TMM) فهي اليوم في حدود %7.25 ، وهذه الترفيعات المتكررة والتي انتقدها الكثيرون نظرا لضررها الواضح على شروط تمويل المؤسسة الاقتصادية إنما هي السلاح الوحيد المتاح للبنك المركزي حتى لا تتنامى الدوامة التضخمية بصفة مجنونة ويصبح التحكم فيها أمرا مستحيلا ..
هنالك خلافات بين المدارس الاقتصادية فمنها من يجعل من مقاومة التضخم أولوية الأولويات ومنها من يرى أن في هذا التمشي خطرا على الانتعاشة الاقتصادية إذ تقترن المقاومة الصارمة للتضخم ضرورة بالترفيع المستمر لنسبة الفائدة المديرية حتى يقع التحكم في الاستهلاك وتصعب شروطه بما يؤدي إلى تراجعه وبالتالي إلى تراجع غلاء الأسعار ولكن الخطر هنا كما هو واضح اعتماد سياسات تقشفية تجعل نسبة النمو الفعلية ضعيفة إن لم تكن سلبية وهنا ندخل في دائرة مفرغة من صنف جديد..
ما يجمع عليه أصحاب الاقتصاد هو المنطق السليم والذي يقول بأن أفضل طريقة لمقاومة التضخم هو الترفيع في نسق الإنتاج وتحسين إنتاجية العمل وإنتاجية رأسمال المال أيضا وهكذا يكون تخفيض الأسعار أو الحدّ من ارتفاعها ناجما عن حركية الآلة الإنتاجية لا عن كوابح تقنية تعيق الاستهلاك..
ولهذا يشير خبراء البنك المركزي إلى ضرورة أن تحافظ البلاد في هذا الظرف الدقيق بالذات على آلتها الإنتاجية وخاصة على القطاع الفلاحي وعلى المؤسسات الصناعية والخدماتية التي تحقق قيمة مضافة مرتفعة وألا نضيق عليها في شروط تمويل نشاطها وألا تطالبها المصالح الجبائية والاجتماعية بتسوية ديونها المتخلدة لديها بصفة فورية بل على مراحل معقولة حتى تتحول الانتعاشة التي تشهدها هذه المؤسسات الرائدة من الظرفية إلى الدوام ..وهنا يتضح الدور الرئيسي للبنك المركزي في توجيه وترشيد تصرف القطاع البنكي حتى يرافق بصفة فعلية هذه الانتعاشة وأن يقبل بالمخاطرات المعقولة وبالتمويلات المدروسة والميسرة لكي نقوي من عناصر النمو الفعلية عبر تكثيف الاستثمار والتصدير والتحسين المطرد لإنتاجية كل العوامل ..
فالأساسي في مقاومة التضخم هو العمل على توفير كل شروط نجاح نمو الاقتصاد الحقيقي وخلق الثروة في القطاعين العام والخاص أما التصور انه بالإمكان أن تحافظ البلاد على توازناتها المالية العامة فقط بجملة من القرارات الإدارية فهذا هو عين الخطأ وهذا هو الخطر الذي ينبه إليه منذ مدة كل المسؤولين عن القطاع الاقتصادي والمالي في البلاد ..
تراجع ظرفي اذن في نسبة التضخم ثم يتبع بعودة في ارتفاع نسقه قبل أن يبدأ التحكم فيه فعليا مع بدايات السنة المقبلة ، ولكن دون تحسين مطرد لكل مؤشرات الاقتصاد الانتاجي الفعلي سيظل التضخم مرتفعا وستتعمق معه وبه أزمة المديونية وتراجع الدينار وضمور احتياطي الصرف ..
الحل واضح : العمل والمزيد من العمل وتحسين إنتاجية كل العوامل من عمل ورأس مال وابتكار وهذا المسار الصعب ، ولكنه الوحيد ، لم يقتنع به بعد كل التونسيين ..