التونسي اليوم نقد الشخصيات السياسية والتشهير بمواقفها وسياساتها وحتى شتمها وفي حالات قليلة الإشادة ببعض الانجازات التي حققها عدد من السياسيين والقرارات التي اتخذوها يكفي أن تستمع إلى أحاديث القوم في المقاهي وداخل سيارات الأجرة والأسواق وأن تطالع التدوينات في الفايسبوك حتى تدرك تحرر التونسيين من عقدة الخوف من الخوض في السياسة.
وبقطع النظر عن تقييمنا لهذه الأشكال التعبيرية والتواصلية ومدى فهم التونسيين لمقتضيات بناء العلاقات مع السياسيين واستعدادهم للاطلاع على المعجم الاصطلاحي السياسي ومختلف النظريات السياسية وأشهر النقاشات التاريخية حول القضايا السياسية التي تظهر في فترات اللااستقرار فإنّ الثابت هو بروز أنماط من العلاقات بين التونسيين والمسؤولين السياسيين أغلبها يتأسس على فكرة الصراع والمواجهة والذمّ والرفض وكأنّ التونسي يتشفّى من سنوات التصميت والقهر فيطلق العنان لنفسه ويفرّج عن كربه من خلال سبّ ممثلي السلطة وشتمهم علّه بذلك يرضي ذاتا معطوبة انتقلت من وضع المهيمن عليه إلى وضع المهيمن.
وما يسترعي الانتباه في أشكال التواصل الجديدة مع السياسيين لجوء عدد من التونسيين إن كانوا من النخب أو عامة الناس، إلى كتابة الرسائل وتوجيهها إلى ممثلي الرئاسات: رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، وبدرجة أقل رئيس مجلس الشعب. وهي رسائل استياء أو غضب أو تحذير أو نصح تصدر عن عدد من الرجال والنساء الذين أرادوا إرساء علاقة مختلفة مع من هم في موقع صنع القرار تقوم على تجاوز مرحلة تدوين بعض الملاحظات أو التعليق على بعض القرارات إلى مرحلة إنتاج خطاب نقدي يوجهونه إلى من بيدهم سلطة تسيير المؤسسات وإدارة شؤون الناس. ولكن ما هي الغاية من وراء نشر هذه الرسائل؟
لا نخال أنّ أغلب الذين كتبوا هذه الرسائل قد اطلعوا على أدب الترسل بين الأديب والسلطان وقد وقفوا على شروط الكتابة السياسية في التراث العربي ولا نتصور أنهم قرأوا نتفا من الرسائل الديوانية الرسمية ولا تابعوا رسائل جبران خليل جبران إلى مي زيادة ورسائل مي إلى جبران.. ورسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان.. ورسائل الشاعر الراحل عبد الباسط الصوفي إلى حبيبته.. غاية ما في الأمر أنّ هذه الرسائل جاءت وليدة سياق الأزمة ولذلك تتواتر في الأزمنة الصعبة مثلا بعد «أزمة توريث السلطة» وكأنّ أصحابها يريدون التعبير عن رغبتهم في مفارقة السلبية وتحمل مسؤولياتهم في اللحظات المفصلية أو أداء دور أو التعبير عن رغبتهم في المشاركة في تغيير الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي.
والمتابع لهذه الرسائل التي تنشر على صفحات الجرائد أو مواقع التواصل الاجتماعي يلحظ أنّها تتخذ أسلوبا مباشرا فلا إلغاز ولا كناية ولا ترميز وهي تعكس تمثلا مخصوصا للسياسي (الأب، الراعي، المسؤول، المخلص، الحكيم، القادر على إصلاح المسار...) وتساهم في ذات الوقت في بناء صورة عن منتج الرسالة (الحكيم، المرشد، المستنير، الوطني الغيور على مصلحة البلاد...) ولكن لسائل أن يسأل عن مآل هذه الرسائل؟ وما هو شكل تلقّي السياسي لهذه الرسائل التي يوجهها له المواطنون؟
في البلدان التي تؤمن بالديمقراطية التشاركية وتحرص على نشر الممارسات الداعمة للتواصل بين المسؤولين وعامة الناس تُلاقي مثل هذه الرسائل كلّ الرعاية والاهتمام بل إنّها تحلل وتنشر ويتواصل مع أصحابها وتؤرشف وتحتل منزلة هامة في الذاكرة الوطنية . أمّا في بلادنا فلا رجع صدى لمئات الرسائل وكأنّها لا تضيف شيئا ذا بال وبلا معنى... فهل يعود الأمر إلى أن كتابة الرسائل اتخذت دلالة مختلفة في متخيلنا السياسي ارتبطت بالوشاية وتدبير المكائد أو طلب الخدمات والعطاء؟
اكتبوا ما شئتم ... فتقاليدنا العريقة تستسيغ المدح وتنفر من الهجاء.
اكتبوا ما شئتم ... فالأمية متفشية ولا أحد يتفاعل مع المكتوب.