تتعرض لعمليات تشويه وتكفير وتهديد بالعنف: دفاعا عن لجنة الحريات الفردية والمساواة

نحن قادرون في تونس على صنع أشياء جميلة ولكن قدرتنا على الاستمرار والبناء على المكتسب أحيانا ما يعتريها التذبذب.. وقد يعود ذلك إلى عدم قدرتنا

الكافية على استشراف الصعوبات والعمل العقلاني الهادئ على تذليلها.. وقد يعود إلى التعود على التعويل على الدولة في كل شيء..
منذ أن عهد رئيس الجمهورية إلى اللجنة التي كلفها بإعداد تقرير عن الحريات الفردية والمساواة في 13 أوت الماضي ونحن نعلم أن أعمال اللجنة هذه وأيا كانت خلاصتها ومخرجاتها ، ستلقى صدّا عنيفا من قبل كل القوى الاسلاموية والمحافظة، وكنا نعلم أيضا أن المتشددين دينيا حتى وإن أرادوا أن يتقدموا للمجتمع في ثوب حاملين « العلم الشرعي» سيشنون حملة شعواء على اللجنة وخاصة على رئيستها الأستاذة بشرى بلحاج حميدة وسيتهمونها بالتطاول على الدين وبخرق «ثوابت» الإسلام ميسرين بذلك لغيرهم مهمة التكفير والتخوين والتهديد..
كل هذا كان معلوما في خطوطه العامة ورغم ذلك لم تستعد كل القوى المؤمنة بتونس الحديثة لخوض هذه المعركة الحضارية الأساسية ..
لا أحد يجادل في أحقية الجميع في مناقشة ما ورد في التقرير ولكن نحن لا نشاهد اليوم نقاشا ولا حتى سجالا بل نشاهد سبّا وشتما وافتراء هذا عندما ننزل إلى أسفل السلم وأما في ظاهره فتكفير مقنع بدعوى معارضة صريح النصوص الدينية وان مقترحات هذه اللجنة مخالفة للتعاليم الشرعية .. وفي المقابل نجد تضامنا مع رئيسة اللجنة وأعضائها وتنديدا بالتكفير ولكن قلة قليلة هم الذين اخذوا على عاتقهم خوض هذه المعركة الحضارية وتبيان تهافت الأطروحات الاسلاموية السلفية التي تدعي علما لا تملكه .. هذه المعركة المنتظرة والضرورية لم يتجند لها احد بطريقة جدية فوجدت اللجنة نفسها في حالة عزلة نسبية مما أربك حتى بعض أعضائها ..
أسباب عديدة تفسر هذا التقاعس الجماعي للقوى الديمقراطية يعود أهمها عند بعضهم الى عدم الرغبة في الدفاع عن تقرير كانت رئاسة الجمهورية هي التي دعت إليه وكأنّ الخصومة السياسية مع رئيس الدولة تبرر الانصراف عن معركة مصيرية للبلاد وجزء آخر قد أعياه نضال السنوات الفارطة ولاسيما في 2013 فسئم العودة من جديد إلى ساحاته ..
لاشك أن عدة جمعيات حقوقية ونسوية قد تحركت وأصدرت البيانات وعبرت عن مساندتها للجنة ولرئيستها وأن بعض المثقفين قد حبروا مقالات هنا وهناك ولكن كل هذا لا يمكن أن يفي بالغرض ولا أن يكون عدة كافية لخوض غمار معركة بمثل هذه الخطورة وهذه الدقة ..
وما ينبغي الانتباه إليه هو خطورة أن يتحاور جزء من النخبة ومن والنشطاء الجمعياتيين فيما بينهم وان يعتقدوا أن تنظيم بعض اللقاءات أو الندوات أو الورشات كاف ومذهب للملامة ..
المعارك الحضارية تحتاج لحوار معمق مع الناس نساء ورجالا وعملا بيداغوجيا ضخما لتبيان زيف ادعاءات الأصولية الاسلاموية وأن التدين العميق والصادق لا يتناقض البتة مع الانفتاح والتطوير والتجاوز وأن ما كان يصلح لزمن الصحابة الكرام لا يصلح كله في زمننا هذا وأن التدين الحقيقي ليس هو التقيد بظاهر النصوص دون تفهم لسياقاتها التاريخية بل هو ارتباط روحاني بين الإنسان وربّه..
نحن نحتاج لتبيئة القيم الكونية ولتغيير ما قد يبدو لنا بديهيا وهو أن احترام الحريات كل الحريات هو وحده الذي يؤمن حياة الفرد من غوائل بطش الدولة أو الجماعة أو العائلة أو أية سلطة مادية كانت أم رمزية ..
لو رمنا فعلا الانتصار في هذه المعركة الحضارية الحاسمة التي ستنقلنا من مجتمعات الجماعة الى المجتمعات المتضامنة بين أفراد مستقلي الإرادة والضمير ينبغي علينا خوض كل معارك الأفكار من البيداغوجية المبسطة للقيم والمبادئ إلى مختلف دروب الفنون والعلوم الى الفلسفة وعلم اللاهوت .. ولكن في تونس يبدو أننا لا نريد خوض المعارك المكلفة وذات النفس الطويل فنكتفي بالإمضاء على عريضة – هذا إذا أمضينا عليها – أو بكتابة اسطر على الجدران الفايسبوكية ثم نعود بعدها إلى قواعدنا سالمين ..
لسنا ندري هل ما زال من المجدي نقد مؤسسات الدولة وأجهزة الحكم والحكام .. فالدولة ممثلة في أعلى هرمها هي التي شكلت هذه اللجنة وكلفتها بإعداد تقرير يصلح كمادة أولية لمبادرات تشريعية لإقرار الحريات الفردية والمساواة ورغم ذلك يُهدّد أعضاء اللجنة وتُستباح أعراضهم ودماؤهم على شبكات التواصل الاجتماعي وتُشنّ ضدهم حملات عامة وخاصة ولا احد في الدولة يحرك ولو اصبعا صغيرا .. بل نقول بأن الحكومة «محايدة» ازاء هذا التقرير !!
لم نر مسؤولا واحدا يدافع عن هذا التقرير وعن اللجنة التي أعدته .. لم نر مسؤولا واحدا عبّر عن تضامنه العلني مع رئيسة اللجنة وأعضائها وشجبه لحملات التكفير وإدانته لهذه التهديدات ..
لم نر القضاء متحمسا لمتابعة هذا الكم الهائل من التصريحات والأقوال المجرمة قانونا .. وكأن هذه المعركة لا تعني الدولة ومؤسساتها وأهل الحكم .. فأولوياتهم أهم ولاشك !! لم يقدم اي مسؤول رسمي على أضعف الإيمان فما بالك بالإيمان كله ..
أما بقية السياسيين فأفضلهم قد اكتفى بإصدار بيان وكفى الله المؤمنين شرّ القتال !!
لقد اعتقدنا بأن وضع تونس اليوم قد أضحى مغايرا تماما للوضع الذي عاشه المصلح الكبير الطاهر الحداد عندما اصدر كتابه «إمرأتنا في الشريعة والمجتمع» سنة 1930.. ولكن في الحقيقة يبقى دعاة الإصلاح الفعليين في بلادنا وفي سائر البلاد العربية كمن يصرخ في واد ..
كل ما نتمناه هو ان تتحول مقترحات اللجنة إلى مبادرة أو مبادرات تشريعية وان يتبناها رئيس الدولة في خطابه المنتظر في 13 أوت القادم . فكما قال الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان – وقد يكون عمر بن الخطاب كذلك - : «ان الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن ..» وترجمان هذا القول ان بعضنا ينتصر للقيم عندما تأتي من هرم السلطة ويتنكر لها أو يتجاهلها عندما لا تحظى بمثل هذه الحماية.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115