لم نكن نتوقع أن تثير العملية الإرهابية الجبانة التي ذهب ضحيتها ستة من شهدائنا البررة كل هذا الهذيان والتناحر وتبادل التهم والمطالبة بما يشبه المحاكمات الشعبية في الساحات العامة.. يعطي الكثيرون منا الانطباع بأننا شعب قد فقد بوصلته وأصبح يخبط خبط عشواء وأنه لا دليل له في هذه المتاهة التي وضع نفسه فيها..
أصبحنا نصدق كل الخرافات والأراجيف وبقدر ما تكون الرواية غرائبية تحظى بالتصديق والمقبولية وكأننا صدّرنا عقولنا إلى الخارج واستعضنا عنها آذانا ضخمة تسمع ولا تعي، تنطبع ولا تغربل أو تدقق أو تُعمل أي أدنى حس نقدي..
وفي المقابل نجد أن جلّ السياسيين في الأحزاب والمنظمات والجمعيات والمستقلين (هؤلاء كلّهم يمارسون السياسة دون أن يفصحوا دوما عن ذلك) يريدون الاستثمار الأقصى لهذه المأساة التي حلّت ببلادنا وأبنائنا.. فإن كانوا من مناصري الحكومة تراهم يحثون على وحدة وطنية فيها شيء من الرياء وحتى لا يتجرأ أحد على المطالبة برحيل صاحب القصبة وصحبه.. وإن كان من معارضيها فهو يضع مباشرة بعد ترحم متسرّع على الشهداء ضرورة «التغيير الشامل والجذري» للحكومة وكأن المسألة تحلّ ببقاء عمرو أو بذهاب زيد..
ثم يصطف البقية من أنصار وزير الداخلية السابق ومدعميه ليتباكوا على البلاد وليحمّلوا الحكومة مسؤولية ما حصل لأنه لو بقي «قلب الأسد» لما حصل ما حصل. وينسون، أو يتناسون، أن أحداثا مؤلمة كثيرة حصلت زمن حكم «قاهر الجرذان» كفاجعة قرقنة والتفاقم غير المسبوق للهجرة السرية ولشبكات تجار البشر والتهريب..
ولكن النزاهة ليست هي الخصلة الأكثر انتشارا في بلادنا ولدينا رغبة جامحة في شخصنة كل شيء سلبا وايجابا تحت شعار «اللي اتحبو سقطلو واللي تكرهو لقطلو»..
وترى في بلادنا نوابا للشعب يستشهدون بأفّاكين محترفين يدعون «خبرة» لا يملكون منها شيئا فتصبح أراجيفهم وافتراءاتهم مادة موثوقة يستشهد بها لا لشيء إلا للنيل من خصم سياسي فقط لا غير.
لِم يحصل كل هذا في بلادنا؟ لِم نعجز عن البناء المشترك؟ لِم نتلذذ بتحطيم بعضنا بعضا ونستعمل في ذلك كل الوسائل مهما كانت خسيسة؟ ولِم يقبل بعضهم بوضع اليد في اليد مع من حامت شكوك كثيرة حول تورطهم مع شبكات الفساد والحالمين بعودة الحكم الفردي بأثواب جديدة؟
والسؤال الأكبر هو التالي: كيف ترضى هذه النخب مجتمعة ومتفرقة بأن تتناحر حول سفاسف الأمور وألا تتوحد لمجابهة كبريات التحديات التي تعيشها البلاد أمنيا واقتصاديا واجتماعيا وأخلاقيا؟
الجواب للأسف الشديد واضح وجلي: غلبة الأنانيات الفردية والفئوية وغلبة الطموحات بل المغامرات الشخصية على كل مشروع جماعي موحد..
نحن أسرى وهم الخلاص الفردي أو الفئوي ومازاد هذا الوهم ترسخا هو موجة الارتياب العامة التي تهيمن اليوم على البلاد... الكل يشك في الكل ولا أحد، أو يكاد، يثق في أحد..
والاشكال أن جلّ هؤلاء قد أصبحوا اليوم أسرى لهذه الأدوار التي اختاروها عن قناعة أو عن طموح شخصي.. وأن لا أحد يريد الخروج من منطقة رفاهيته وأن يراجع تكتيكاته وحساباته الصغيرة...
لو واصل جلّ هؤلاء على نفس هذا النسق فالنتيجة واضحة أكيدة: خسارة الجميع أفرادا وفئويات والبلاد قاطبة كذلك.
أعداء الحكومة وأنصارها وخصوم الطرفين كذلك مدعوون اليوم لوقفة تأمل حقيقية وإلى لحظة صدق مع الذات: هل بامكاننا متفرقين متناحرين هزم الإرهاب والانتصار على الفقر ومقاومة البطالة وانعاش الاقتصاد وتحقيق الحدّ الأدنى من العيش الكريم لكل بنات وأبناء تونس؟
تتحمل منظومة الحكم الناتجة عن انتخابات 2014 مسؤولية جسيمة في كل ما حصل.. نظرية «الوطن قبل الأحزاب» لم تشتغل وأظهرت حدودها منذ البداية باقحام العائلي في سياسة الدولة... انها أزمة أخلاقية أو لا وقبل كل شيء... أزمة طالت كل شيء ونفذت الى جل مكونات البلاد فأفسدت العلاقات وعقّدت الحسابات وغلّبت الظرفي الزائل على المصالح الحيوية والاستراتيجية للبلاد..
بلادنا أمام مفترق طرق ولا يهم حقيقة، من سيكون ربّان السفينة اليوم أو غدا، المهم هو أن نخوض لجاج البحر في سفينة صلبة موحدة الأهداف دون أن ينفي ذلك التنوع والتعدد وحتى الاختلاف.. لا بدّ من المحافظة على «الشقف» أولا وقبل كل شيء ولكن كثرة التنازع الداخلي قد تذهب بالربّان وبـ«الشقف» كذلك.