وهي مدعوة للتسارع بقدر اقترابنا من انتخابات 2019 والتي تعلق عليها بعض الآمال وكل المخاوف كذلك ..
وأجنحة السلطة في بلادنا معقدة ومتداخلة فيها ما له علاقة بمؤسسات الدولة وخاصة داخل السلطة التنفيذية وفيها ما هو مرتبط بأهم المنظمات الاجتماعية والأحزاب الحاكمة وفيها ما هو متعلق بالعائلة بحكم تداخل السياسي مع الشخصي وفيها أيضا لوبيات تتهافت على السلطة المادية والمعنوية وتحلم بصناعة الرؤساء ظنا منها بأنها هي التي صنعت الرؤساء السابقين أو بعضهم بدءا ببن علي وصولا إلى قائد السبسي ..
لقد قررت هذه الأجنحة الدخول في صراع مبكر إما للاستفراد بالنفوذ بعد 2019 أو لتحسين موقعها في المنظومة «الكعكوية» (نسبة إلى الكعكة) ..
يوسف الشاهد لم يكن ينتمي للصف الأول من أجنحة الحكم قبل تعيينه رئيسا للحكومة ولكنه تحول بسرعة إلى لاعب أساسي لا فقط في تسيير دواليب الدولة بحكم مهمته الجديدة ولكن أيضا بحكم ما بدا وأنه يمثل مشروعا سياسيا قائم الذات وذاك هو الفرق الجوهري بينه وبين سلفه الحبيب الصيد ..
من المفارقات التونسية أن رئيس الحكومة بعد أن أصبح يمثل أحد أجنحة السلطة في البلاد ظل إلى حد اليوم من أضعفها ومن اقلها قدرة على فرض زمنه السياسي الخاص .. قد يعود هذا إلى خصوصية وظيفته وعلاقة البنوة التي أراد أن يبنيها مع رئيس الجمهورية ولكن الأساسي في هذا الوهن الأصلي هو أن يوسف الشاهد ليس هو زعيم حزبه أي ليس الفاعل
الرئيسي في أحد أجنحة السلطة في البلاد بما جعله يبحث على امتداد هذه السنة ونصف السنة عن حمايات مختلفة : رئاسة الجمهورية ثم اتحاد الشغل والآن حركة النهضة وذلك لأن عوده مازال غضا وغير قادر على مجابهة منافسيه أو خصومه بالاعتماد فقط على قوته الذاتية ..
ولكن الخيط الناظم للمسيرة السياسية لصاحب القصبة منذ سنة على الأقل هو السعي لخوض معارك جزئية تقويه بصفة تدريجية.. وأولى هذه المعارك كانت حملته على بعض بارونات التهريب والفساد والتي هدف من ورائها إلى ضرب عصفورين بحجر واحد : البروز كرجل قادر على الفعل والتحدي ومقاومة بعض اللوبيات المتنفذة في البلاد وهذا ما جلب له حينها موجة غير مسبوقة من التعاطف الشعبي .. أما الحجر الثاني فهو إضعاف حافظ قائد السبسي والمجموعة المحيطة به التي كانت تربطها صداقات معلنة وفخورة بشفيق جراية ابرز الموقوفين في الحملة على الفساد ..
ثم كانت الهجمة المضادة من قبل حزبي النداء والنهضة في اوت 2017 والاحتماء حينها برئاسة الجمهورية وباتحاد الشغل ثم خسارته لهذا الحليف الهام لأسباب قد أتينا عليها في إبانها وأهمها شعور قيادة الاتحاد بأنها أصبحت الهدف الموالي لحكومة الشاهد .. وهنا اعتقد الجميع بأن الشاهد قد انتهى سياسيا لأنه لا قدرة له على مواجهة خصمين كبيرين في نفس الوقت : النداء واتحاد الشغل ولولا اعتراض حركة النهضة على الإطاحة بالشاهد لكانت هذه الحكومة في عداد التاريخ ..
ولكن وكما يقال : الضربة التي لا تقتلك تقويك ، وهذا ما حصل بالفعل مع يوسف الشاهد الذي استغل تعليق وثيقة قرطاج 2 نظرا لعدم التوافق على إزاحته ليشن هجوما علنيا كاسحا على حافظ قائد السبسي بالذات متهما إياه بتدمير نداء تونس وموحيا بأن المجموعة الملتفة حوله ضالعة في الفساد .. ثم أضاف رئيس الحكومة ضربة جديدة بإقالته لوزير الداخلية بالنظر إلى ما يمثله لطفي براهم الوزير المقال ، من تقاطع –صحيح أو مفترض – للوبيات فاعلة داخل أجنحة السلطة تعادي اليوم رئيس الحكومة وتطلب رأسه ..
لقد أصبحت أجنحة السلطة في بلادنا شبيهة بحالة الطبيعة التي تحدث عنها فلاسفة العقد الاجتماعي وهي حالة حرب الكل ضد الكلّ.. ضرب تباح فيها جميع الأسلحة والوسائل لإبعاد الخصوم أو على الأقل لإضعافهم وذلك دوما بالنظر إلى الأفق الوحيد المحرك للجميع : 2019 ولا شيء غير 2019..
يبدو لنا ان يوسف الشاهد قد غير الإستراتيجية التي كان توخاها في نهاية السنة الفارطة وهي الدوام في القصبة وتجنب الفخاخ وربح الوقت حتى يكون عندما يقترب موعد الانتخابات الرئاسية المرشح الندائي الوحيد القادر على خوضها ببعض حظوظ النجاح .. ولكن تبيّن له أثناء نقاشات «قرطاج 2» بان هذه الإستراتيجية قد أضحت مستحيلة لأن القيادة الحالية
للنداء مقرة العزم على إبعاده نهائيا من مركز السلطة وانه لن يكون في القصبة مع بداية 2019..وبما أن المثل الفرنسي يقول : بعيد عن العينين ، بعيد عن القلب « سيكون إجبار يوسف الشاهد على الرحيل إعلانا عن موته السياسي ..
أمام هذا الوضع الجديد تكون سياسة ربح الوقت التي انتهجها الشاهد انتحارا سياسيا مؤكدا ولكن فرض زمنية جديدة قوامها الصدام وكيل الصاع صاعين يفترض كذلك الاستعداد لمغادرة القصبة لأنه لا يُتصور استمرار حالة الطبيعة لسنة ونصف وفي قلب السلطة التنفيذية بالذات ..
أي أن الهجوم الكاسح على حافظ قائد السبسي واقالة لطفي براهم والضربات القادمة الصادرة من القصبة إنما تهدف كلها لحسن إعداد خروج يوسف الشاهد من رئاسة الحكومة .. خروج لا إخراج .. خروج يتحكم في زمنيته وفي نسقه وفي ساحات معاركه حتى يخوض بعد أم المعارك بالاعتماد على مراكمات سياسة الخروج ..
ولكن هل يكفي فتح النار على حافظ قائد السبسي وإقالة لطفي براهم وفتح النار على اللوبيات التي تدعمه لكي يكون يوسف الشاهد مرشحا جديا لانتخابات 2019 ؟ بالتأكيد لا ..
يوسف الشاهد ككل رجل حكم مضطر إلى بناء سردية نجاح سردية تقول للتونسيين انظروا ما استطعت فعله رغم تألب كل الخصوم وعدم مسكي بزمام المبادرة ، أما لو منحتموني ثقتكم فستتضاعف النجاحات وسأكون قادرا على قيادة الإنقاذ الفعلي والنهائي للبلاد ..
ولقد بدأت تتضح ملامح هذه السردية : بداية تعافي ما يسميه يوسف الشاهد بالاقتصاد الحقيقي (اي آلة الإنتاج الصناعي والخدماتي) إذ حققنا %2.5 كنسبة نمو في هذا الثلاثي الأول وحسنا من التصدير وبدأت السياحة تسترجع شيئا من حيويتها .. مشكلتنا فقط في أزمة المالية العمومية (مديونية – تضخم .. انزلاق الدينار ..) وهذه لن تحل إلا بالإصلاحات الضرورية (الصناديق الاجتماعية والمؤسسات العمومية والتحكم في كتلة الأجور ) ولكن هذه المروية لم تكتمل وهي بحاجة إلى تأكيد قوي .. وهذا التأكيد هو الذي سيشتغل عليه الشاهد في الأشهر (او الأسابيع) التي سيقضيها في القصبة ..
البداية ستكون مع تسريح صندوق النقد الدولي للقسط الثالث من القرض الممدد في بداية جويلية القادم وتمرير إصلاح منظومتي التقاعد والصناديق الاجتماعية أمام مجلس النواب .. وهذان الأمران غير عسيرين ولكن الصعوبة كل الصعوبة هي في القدرة على عقد اتفاق مع اتحاد الشغل بشان الزيادة في الأجور في القطاع العام زيادة دون معدل التضخم ( اي في حدود %3 او %4) حتى تنخفض نسبة كتلة الأجور من الناتج الداخلي الخام ولو بصفة بسيطة.. ولكن أمام هذه الصعوبة يمتلك الشاهد سلاحا قويا وهو مغادرته الوشيكة للقصبة .. فلو رفض الاتحاد اتفاقا كهذا فقد تتأجل المفاوضات إلى الحكومة الموالية ولكن لن يقبل أي عاقل أن يشغل منصب رئيس حكومة وأمامه ملف بمثل هذا التعقيد ..ولو رفض الاتحاد زيادة بـ%3 او %4 فهو قد لن يجدها مع خلف الشاهد ..
ويطمح الشاهد لتحطيم كل أرقام النمو منذ سنة 2013 في هذا الثلاثي الثاني بتحقيق البلاد %3 أو %3.5 ولكن الإعلان عن هذا الرقم لن يكون إلا في منتصف أوت القادم ..
إضافة إلى كل هذا يأمل الفريق العامل مع الشاهد في تحقيق موسم سياحي استثنائي يكون هو الأفضل منذ 2015 ويضع هذا القطاع الحيوي على سكة الانتعاشة الحقيقية .. وفي الختام التفويت في مؤسسة عمومية او أكثر لضخ أموال جديدة في ميزانية الدولة لسنة 2019 يقلص نسبيا من حاجة البلاد إلى التداين .
هذه هي مروية النجاح التي ينوي نسج خيوطها يوسف الشاهد : اقتصاد في الطريق السليم وإصلاحات جريئة مع قدرة على الصمود أمام خصومه وكيل الصاع صاعين لهم ..
ولكن ما بين المرويات وتمثلات الناس مسافة كبرى .. فقد رأينا أن المروية المماثلة في جوهرها لرئيس الحكومة الأسبق المهدي جمعة لم تتحول بعد إلى انخراط شعبي فالنجاح لن يكون نجاحا فعليا الا إذا ما اعترف به الآخرون..
وفي الانتظار يبقى المصير السياسي ليوسف الشاهد معلقا بين «حالة الطبيعة» لفلاسفة العقد الاجتماعي و«الصراع من اجل الاعتراف» للفيلسوف الألماني الكبير هيغل ..
من قال إن الفلسفة لا تصنع التاريخ ؟ !..