المسؤولية الجماعية في مأساة الهجرة السرية

حصلت نهاية الأسبوع الفارط مأساة جديدة قرب سواحل جزيرة قرقنة ذهب ضحيتها 48 غريقا في أحد قوارب الموت التي تدفع

سنويا بالآلاف من شبابنا نحو المجهول ..

وللأسف هذه المأساة ليست الأولى من نوعها ولن تكون الأخيرة إذ أضحت الهجرة السرية أو غير الشرعية أو غير النظامية حسب مختلف التسميات صناعة بأتم معنى الكلمة .

فلقد أحصى المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية أكثر من 1500 «حارق» في السنة الماضية وتقول أرقام وزارة الداخلية أنه تم منع زهاء 6000 شاب من امتطاء قوارب الموت هذه خلال الأشهر الخمسة الأولى من سنة 2018 من بينهم حوالي 900 نفر في النصف الأول من شهر رمضان .وهذه الأرقام في نمو مطرد رغم كل المجهودات المبذولة من قبل الأمن والحرس والجيش للتصدي لها وذلك رغم الصور المفزعة التي أضحت شبه اعتيادية سواء كان ذلك قرب السواحل التونسية أو الايطالية أو بينهما .. فالبحر يحصد المئات سنويا ودون أن يؤثر هذا مطلقا على جاذبية هذه المغامرة المدمرة ..

إن الأرقام ، على فظاعتها ، لا تعبر عن حقيقة هذه المأساة الإنسانية لأن كل ضحية هو قصة مأساة كاملة وانكسار نهائي لحلم شخصي وأمل عائلة وجرح لا يندمل .. والإحصائيات ، على أهميتها القصوى لفهم هذه الظاهرة ، قد تحجب عنّا أحيانا الأساسي والإنساني في كل شي ..

من المسؤول عن هذه المأساة الإنسانية ؟
سيقول العديدون منّا إنها السياسات الخرقاء للحكومات المتعاقبة التي كادت تقتل الأمل عند الناس بصفة عامة وعند شبابنا بالخصوص .. إنه الفقر والخصاصة وغياب فرص العمل وانسداد الأفق أمام كل مشروع للرفاه الشخصي أو الجماعي ..

كل هذا صحيح ولكن هذا التشخيص مريح لأنه ينزع المسؤولية الفردية عن الجميع ويحمّلها للسياسات العامة وللحكومات المتعاقبة وهذا ما يجعلنا ننسى ، أو نتناسى ، مسؤوليات عديدة تكاد تشمل جميع الجسم الاجتماعي ...

في البدء نحن لا نقول بالقوة الكافية أننا أمام شبكات إجرامية تتاجر بالبشر وتبيعهم خرافات وهمية ..وشبكات «الحرقة» هي شبكات تنتمي للجريمة المنظمة وهي ليست أقل خطرا من كل أصناف الجريمة المنظمة من الاتجار في المخدرات أو السلاح أو الدعارة أو الأعضاء أو شبكات العبودية الجديدة .. إننا إزاء شبكات تبيع الموت وتسوق له في ثوب حلم جميل ،وهي لم تجد إلى الآن الردع الأمني والقضائي الملائمين لخطورة هذه الجريمة ..

وثمة كذلك مسؤولية ،ولو كانت نسبية ، لكل النخب ووسائل الإعلام الجماهيرية خاصة لأنها لا تكشف بما فيه الكفاية زيف هذا الوهم الذي تسوق له شبكات جريمة «الحرقة» ..

ينبغي أن نقول وأن نكرر أن «الحرقة» جريمة أولا وهي خدعة ثانيا لأن الغالبية الساحقة من الذين نجوا من براثن الموت في أمواج المتوسط تتلقفهم في الضفة الشمالية السجون وشبكات الانحراف بأصنافها والفقر والخصاصة..صحيح أن قلة قليلة منهم تتمكن من «النجاح» أو بالأحرى من امتلاك بعض عناصر النجاح المادي وأقل من القليل هم الذين ينجحون فعلا في رسم مسار جديد لحياتهم ..

وهذا يعني بوضوح أن إمكانية النجاح في تونس هي ارفع بكثير من النجاح « بواسطة الحرقة» هذا ما لا نقوله جميعا بالوضوح الكافي وكل وسائل الإعلام بمختلف وسائطها مقصرة كثيرا في إبراز نجاحات التونسيين في بلادهم : في الدراسة أو البحث أو في الابتكار وخلق المشاريع والتألق المهني لكل بنات وأبناء الطبقة الشعبية ..

كما ينبغي أن نوضح الصورة كاملة لكل التونسيين : النجاح الفردي ممكن دوما شريطة العمل والتعب والاستثمار الشخصي لفترة قد تطول ، وان النجاح السريع و«بهرجة الظاهر» سواء كان ذلك في تونس أو في أوروبا ليس دوما نجاحا شريفا وهذا يحيلنا على الأساسي في كل هذا وهو أزمة القيم العميقة التي تعصف بمجتمعنا .. وهذا لا يعود فقط الى السنوات الأخيرة بل له جذور أعمق مردها بالأساس أن مجتمعنا - وهنا تدخل السياسات العامة لكل الحكومات – لا يجازي دوما المجتهد وصاحب الكفاءة بل المنخرط في الشبكات الزبونية القريبة من مواقع القرار السياسي والمالي ..

والمفارقة هنا هي استبطان كل من يعزم على «الحرقة» لهذه القيم الأخلاقية الجديدة التي يقول انه ضحيتها : النجاح السريع دون جدارة تذكر .. الفرق الوحيد بينه وبين «الناجحين» الآخرين هو موطن هذا الصنف من النجاح لا غير ..

وفي الحقيقة فهذه الثقافة الجديدة / القديمة قد اخترقت أيضا العديد من العائلات التونسية وفكرة أن المستقبل مسدود في البلاد أضحت قناعة عامة ولذلك ترى تحمس العائلة بأسرها لمشروع «الحرقة» باعتبارها الخلاص الفردي لابنها بداية ولها ثانية عندما يتمكن من «النجاح» في بلاد «العكري»

نحن أمام ظاهرة معقدة تعكس في مغامرة «الحرقة» كل الأزمات الاجتماعية والأخلاقية التي تعيشها البلاد اليوم من تعطل جل محركات المصعد الاجتماعي وغياب السياسات العمومية الجريئة التي تزرع الأمل بصفة إرادية مع ثقافة النجاح السريع حتى وإن كان ثمنه الموت .بداية الحل تكون في مواجهة كل هذه التحديات مجتمعة وتحميل كل المكونات مسؤوليتها كاملة وضرب الشبكات الإجرامية بكل شدة ..

ولكن بالطبع نحتاج للنجاح في كل هذا إلى منظومة حكم أكثر جدية بكثير من تلك التي تسير البلاد اليوم ..

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115