أزمة نداء تونس ومشروعية حافظ قائد السبسي لقيادة الحزب الذي أسسه والده سنة 2012..
أزمة حكم شاملة جاءت بعد انقطاع سبل التواصل بين الحكومة واتحاد الشغل وهزيمة الحزب الفائز في تشريعية 2014 في امتحان بلديات 2018..
ورغم أن أهم الفرقاء السياسيين والاجتماعيين المجتمعين في وثيقة قرطاج 2 مازالوا يقرون بالقيادة المؤسساتية والسياسية للباجي قائد السبسي إلا أن أزمة الحكم هذه تضع رئيس الدولة ذاته في موضع حرج لاختلاط العائلي بالسياسي ولمسؤوليته المفترضة ، أو الحقيقية ، في صراع الأجنحة داخل نداء تونس على امتداد هذه السنوات الأربع الأخيرة ..
أزمة تفرض على رئيس الدولة التدخل قبل أن تأتي على اليابس وما بقي من الأخضر .. ولكن يظل السؤال الأكبر والمحير لصاحب قرطاج : من أين يبدأ ؟ بأزمة الحكومة أم بأزمة النداء أم بالاثنين معا ؟
المنطق السياسي السليم يفترض أن يكون الحلّ شاملا ، قدر الإمكان ،إذ أصبح من الواضح اليوم أن جزءا مهما من أزمة الحكم إنما هو مرتبط بالعلاقة المتوترة سابقا والعدائية حاليا بين رئيس الحكومة والمدير التنفيذي للحزب الحاكم .
الضغوطات كثيرة ومتنوعة ومتفاقمة وهي تمارس على كل الفاعلين الأساسيين اليوم من داع إلى الحسم الى مسارع لتقديم خدماته إلى مرجح لتهدئة قد تمهد لعودة الحوار بين من انقطعت بينهم سبله ..
نحن أمام معادلة جدّ معقدة وتتداخل فيها كل العناصر ..
هدف الجميع ونقصد خاصة هنا الأطراف السياسية معلوم وهو تحسين الظروف والشروط لخوض الانتخابات التشريعية والرئاسية لسنة في أفضل الأحوال ..
فرئيس الدولة مسكون منذ أشهر باحتمال هزيمة الفريق الذي يمثله برلمانيا ورئاسيا .. وهذه المخاوف بدأت تتجسد منذ هزيمة النداء في الانتخابات الجزئية في ألمانيا في ديسمبر 2017 وتعمقت مع النتائج المخيبة للآمال في البلديات .. ولعل العنصر الايجابي الوحيد بالنسبة لرئيس الدولة أن النداء لم يمت رغم هزيمته الكبيرة وأن الأحزاب الوسطية لم تتمكن من افتكاك ملموس لقاعدته الانتخابية في 2014..
وهكذا نفهم أن تذكير يوسف الشاهد في هجومه الكاسح على حافظ قائد السبسي بالهزائم الانتخابية للنداء ليس بريئا بل جاء ليخاطب هذه المخاوف الرئاسية وليقول لصاحب قرطاج أن إبقاء الأمور على ما هي عليه في النداء إنما مصيره هزيمة نكراء وربما اندثار سياسي بعد سنة ونيف ..
لكل هذه الدواعي لم يكن رئيس الدولة متحمسا لإحداث تغيير جذري على رأس الحكومة كما كانت تدعوه حينها بالأساس المنظمتان الاجتماعيتان الكبيرتان اتحاد الشغل واتحاد الأعراف ..
لقد كان الهاجس الأول لرئيس الدولة هو البحث في إمكانيات تعاف ولو نسبي لنداء تونس دون اللجوء إلى عملية جراحية مكلفة كالإبعاد النهائي لنجله من قيادتهبل الاكتفاء بالتضحية ببعض أفراد مجموعة حافظ وإقناع بعض من غادروا النداء أو الواجهة القيادية للعودة لترميم بعض ما تصدع..
ولكن بعد الحرب المفتوحة بين يوسف الشاهد وحافظ قائد السبسي اختلطت الأوراق من جديد والترميم الذي كان يفكر فيه الباجي قائد السبسي لم يعد كافيا للإجابة عن أزمة بمثل هذه الضخامة ..
لاشك أن رئيس الدولة بصدد التفكير في سيناريو متكامل يسمح لمنظومة الحكم بتجاوز هذه الأزمة بأخف الأضرار ويوفر لها الحدود الدنيا للاستمرار السياسي في 2019 وبعدها ..
ولكن لا أحد يملك خارطة طريق واضحة لهذا السيناريو .. اذ للفوز في انتخابات 2019 ينبغي بصفة حتمية تحقيق تقدم واضح في تسيير البلاد والخروج من دائرة النمو الهش وانجاز الإصلاحات الضرورية التي تسمح بتحسين المؤشرات العامة للمالية العمومية من مديونية وعجز الميزانين الجاري والتجاري ..
والسؤال هل أن حكومة الشاهد قادرة على هذا أم لا ؟
وهل أنها مازالت قادرة على حكم البلاد بعد الأزمة المفتوحة بينها وبين اتحاد الشغل من جهة ونداء تونس من جهة أخرى ؟ وفي صورة تغييرها هل ستنجز الحكومة القادمة ما عجزت هذه الحكومة عن فعله ؟
الجواب ليس واضحا والحلول ليست كثيرة ولكن ينضاف إلى هذا التعقيد أزمة الحزب الحاكم والحرب المفتوحة بين الشاهد وقائد السبسي الابن .. فلو تم تغيير الشاهد سيقول الجميع بأن الأب انتصر لمنطق العائلة لا لمنطق الدولة ولكن هل يجب الإبقاء على الشاهد مهما كانت التكاليف وخاصة إذ استحال عليه إعادة الحد الأدنى من التفاهم مع المنظمة الشغيلة؟
البدء بأزمة الحكومة اليوم كما تبين مسألة غير محمودة العواقب خاصة وأن التوافق السياسي الضروري لرحيلها غير متوفر اليوم وحركة النهضة ذات القول الوازن هنا ليست مستعدة لإعادة تجربة الحبيب الصيد وبنفس الطريقة ..
فهل يبدأ رئيس الجمهورية بأزمة الحزب الذي أسسه ؟ وهل هو قادر اليوم على فرض حلّ جذري لا يرتضيه حافظ قائد السبسي وجماعته ؟ بعبارة أخرى هل يمكنه إجبارهم على المغادرة النهائية للحزب ؟ وفي هذه الوضعية من سيتولى مهام التأسيس من جديد ؟
كل هذا بالطبع دون احتساب وزن الضغوطات العائلية اليومية وكل اللوبيات الدائرة بالنجل وبجماعته ..
هنالك اليوم أصوات كثيرة تعتقد أن لديها بعض الإنصات الرئاسي تريد أن تدفع الباجي قائد السبسي الى قمع تمرد يوسف الشاهد في المهد ، وهي تقول وتوحي بأن الهجوم على الابن إنما المقصود به الهجوم على الأب في نهاية التحليل وانه لو لم «يعاقب» يوسف الشاهد فلن يتمكن من التحكم فيه غدا وان الشاهد بعد «قتل» الاخ سوف يتجه حتما الى «قتل» الأب.
لاشك أن معركة النداء ستدور اليوم أساسا داخل كتلته النيابية الحائزة على شرعية الانتخابات والقادرة – نظريا- على مسك الحزب .. ولكن وضعية الكتلة بعد ما غادرها ثلث أعضائها لا تنبئ بقدرة على التأثير على مجريات الأحداث ..
هنالك شخصيات وازنة في النداء وطنيا وجهويا جلّها ابتعد عن الصفوف الأمامية اليوم ولكن هل لديها القدرة القيادية على إعادة تأسيس الحزب في وقت قصير ، هذا إذا ما افترضنا بالطبع تنحي المدير التنفيذي وجماعته ..
لا شيء ، يدل - إلى حد كتابة هذه الاسطر – أن رئيس الجمهورية قد استقر على رأي نهائي بشأن المسارين الحكومي والحزبي .. فقد يقدم رئيس الدولة على بعض المجازفة لو تاكد من فاعليتها اليوم وخاصة في 2019 وقد يختار حلولا ترقيعية هنا وهناك ولكنه أضحى يعلم أن الحلول الترقيعية لم تعد تجدي نفعا وأنها خسارة للوقت وليست ربحا له ..
ثم إن رئيس الجمهورية لا يمكنه أن يفعل ما يريد لا في أزمة الحكومة ولا في أزمة النداء لأن هنالك هنا وهناك فاعلون كثيرون لهم وزنهم في كل قرار .. فهو لن يتمكن من فرض ما يريد على حركة النهضة أو على اتحاد الشغل على سبيل الذكر وهو يعلم جيدا أن هاتين القوتين محددتان سياسيا واجتماعيا والإشكال هنا هو اختلاف وجهات نظر شريكي الحكم الأساسيين للباجي قائد السبسي ونفس الأمر يصح كذلك على أزمة الحزب حيث تتدخل فيها أطراف عدة عائلية وحزبية ووجاهات ومصالح وتموقعات ..
عندما دافع الباجي قائد السبسي عن فكرة «حكومة الوحدة الوطنية» في جوان 2016 قال بأنها ستكون بمثابة الفرصة الأخيرة (لمنظومة الحكم بالطبع) أما اليوم فهو أمام أهم واخطر تحد سياسي لهذه العهدة الانتخابية .. تحد يفرض عليه إيجاد حلول قد يكون أحلاها مرّا .. وأيّا كانت خارطة الطريق المبتكرة فهي لن تخلو
من النقد والانتقاد من الوهلة الأولى ..
إنها رمال السياسة المتحركة .. الغرق فيها أسهل بكثير من النجاة ..