في شهر رمضان. غير أنّهم، وعلى غير عادتهم، قد تحوّلوا خلال الأسبوعين المنقضيين، إلى متابعين للشأن السياسي، وهم بذلك يثبتون أنّهم ليسوا في قطيعة نهائية مع السياسيين وما صاموا عن السياسة. واللافت للانتباه في المواضيع التي هيمنت على التونسيين مسألة التباس السياسي بالإعلام لاسيما بعد عرض بعض الحلقات من الكاميرا الخفية «شالوم». ولئن كان موقف التونسيين من الطبقة السياسية معروفا وثابتا فإنّ التغيير الملاحظ هو انتقاد هؤلاء الشديد للبرمجة الرمضانية، من جهة ولأداء الإعلاميين، من جهة أخرى. وقد نجم عن حالة الاستياء انطلاق النقاش حول دور الإعلام ، المهنية، علاقة فئة من الإعلاميين بأهل السياسة، الأهداف، الأجندا، الرقابة، أهمية الإعلام المسؤول، دور هيئة التعديل ...
والمطلع على مختلف المواقف ينتبه إلى ارتفاع منسوب العنف اللفظي لدى المنتقدين للبرمجة الرمضانية، ولدى من حاولوا محاكاة «علي شورّب» في سلوكه وأقواله بل إننا عرفنا اعتداء ماديا على أحد المشاركين في الكاميرا الخفية وجريمة أبطالها يافعون، وهذا يعني أنّ تفاعل عدد من التونسيين مع ما يعرض صار مؤديا في حالات كثيرة إلى نقل العنف من فضاء «تخيليّ» و«إعلامي» إلى فضاء مادي وواقعي. ولكن إلى أي حدّ كان المنتجون لهذه البرامج على وعي بخصوصية السياق الثقافي التونسي في بلد هيمن عليه الاستقطاب الحدّي، وارتفعت فيه نسب الجرائم، واستشرت فيه كلّ أشكال العنف واربكت فيه علاقة المواطنين بالدولة وبالمسؤولين عن تسييرها، وساد فيه الشعور بالإحباط ؟
ثمّ إنّ ما يسترعي الانتباه في الجدل حول البرمجة الرمضانية هو تنصل المشاهد من مسؤولياته واندفاعه في الحديث عن المؤامرة التي نسج خيوطها أهل المال والإنتاج الدرامي والسياسة من أجل استيلاب وعي التونسيين وكأنّه لا دور للمشاهد سوى التلقي والتأثر ثمّ ردّ الفعل، والحال أنّ المشاهد مسؤول عن اختياراته وبإمكانه أن ينتقي ما يتلاءم مع ميوله وحاجاته وذائقته الفنية وفضوله المعرفي، بل إنّ باستطاعته أن يقاطع القنوات التونسية ويتوجه صوب الفضائيات الأخرى المتاحة والتي تقدّم مادة تليق بالمشاهد. والسؤال الذي يجب أن يطرح في هذا السياق: لم يعزف أغلب التونسيين عن مشاهدة البرامج الثقافية، على قلّتها، كـ«مش ممنوع» الذي يقدّم مادة ممتعة فيها نصيب من الفنّ وضروب من الإبداع وآراء تثريّ الزاد المعرفي؟ وهل لغياب رؤية ثقافية صلة بهذا العزوف؟ وهل لتفشي الشعبوية علاقة بهذا النفور؟
ثمّ إنّ هذه المواقف المنتقدة للبرامج الرمضانية توغل في التعميم والخلط بين الإعلام المرئي وغيره من الأصناف. فتتحدّث عن حالة استياء كليّ من الإعلام التونسي الذي كان جزءا من المشاكل التي تعاني منها البلاد ولم يكن مسؤولا ولا «إعلام تنمية» ويتجاهل المنتقدون أنّ من الإعلاميين من نددوا بغياب المهنية والتطفل على الميدان والتلاعب بشرف المهنة والقيم المثلى . فكانوا بذلك مسؤولين ومدركين لخطورة الموقف.
لا مراء في أنّ لشهر رمضان في العالم العربي خصوصية إذ يتوقع المفتونون بالتلفاز أن يجدوا في البرمجة الخاصة ما يتلاءم مع رغباتهم. ولكن للمسؤولين عن الإنتاج والبرمجة مآرب أخرى تتجاوز الإمتاع والمؤانسة إلى الكسب والربح وصناعة الرأي العام وتشكيل السلوك وتغيير القيم المعيارية وخلخلة التمثلات وصناعة النجوم وفرض سرديات بعينها ، وهو أمر دفع بالبعض إلى المقارنة بين «أيام زمان» حيث كنا نستمع إلى الحاج كلوف ، وشاناب وأمي تراكي...وما آل إليه الوضع في السنوات الأخيرة مع أولاد مفيدة» وصولا إلى «علي شورب» بينما آثر آخرون التفاعل في الفايسبوك. ولكن إلى متى الهرب من الحاضر بالارتماء في أحضان الماضي ؟ ألا يعكس النقاش حول «الإعلام والسياسة» المستوى الذي بلغه التعليم في البلاد، ويبيّن المتغيرات الثقافية والاجتماعية وما آل إليه حال الثقافة في ربوعنا؟