11 دقيقة وضعت على مأدبة كافة التونسيين ما كانت تتناقله الكواليس وبعض وسائل الإعلام ووسائل الاتصال الاجتماعي على امتداد ثلاث سنوات ..
لا يهم الآن الحديث عن جدوى وصدقية الهجوم الناري ليوسف الشاهد على صاحب الباتيندة الجديد في نداء تونس حافظ قائد السبسي ولا يهم أيضا معرفة هل أقحمنا رئيس الحكومة في خصومة لا تعنينا أم لا ؟ المهم هنا هو مسألة بسيطة وخطرة في ذات الوقت : رئيس الحكومة يتهم حافظ قائد السبسي بتدمير نداء تونس وبأنه محاط بجماعة لا تريد الخير للبلاد ..
رئيس الحكومة يهاجم علانية وبقوة نجل رئيس الجمهورية وأمام كل التونسيين ..
هذا الحدث نادر ولا يمكن أن نقلل من أهميته وآثاره المستقبلية بأي حجج كانت ..
قد يكون هذا الهجوم جاء متأخرا وقد يكون مناورة لا غير وقد يكون ثأرا شخصيا وقد يكون تمردا متأخرا .. وقد يكون .. وقد يكون .. ولكن لا ينبغي أن ننسى انه كان وأن مجرد كينونته المادية ستغير الكثير في عالم السياسة اليوم ..
لقد فتح يوسف الشاهد حربا داخلية شاملة في نداء تونس لا يمكن أن تنتهي إلا بالنهاية السياسية لأحد طرفيها على الأقل ..
ولكن لا يشك أحد أن العامل المحدد بصفة كبيرة في مآل هذه المعركة سيكون موقف رئيس الجمهورية منها ومن الكفة التي سيرجحها ولو بصفة غير مباشرة..
من المفارقات العجيبة في البلاد أن هجوم يوسف الشاهد على الابن قد يحرر الأب ويطلق يده لإيقاف مشروع «التوريث الديمقراطي» بصفة نهائية وذلك لأنها المرة الأولى التي سيضطر فيها رئيس الدولة للحسم في الدور السياسي المتعاظم لنجله وللمجموعة المحيطة به من المنتدبين الجدد من الفريق البديل لنظام بن علي ..
إلى حد يوم اول أمس كان بإمكان رئيس الجمهورية أن يقول بأنه لا دخل له في الصراعات التي شقت نداء تونس منذ بداية سنة 2015 وانه لا وريث له وانه لا وراثة في النظم الديمقراطية. أما بعد هذه الدقائق الإحدى عشرة فلم يعد بإمكانه المواصلة على نفس هذه الطريقة وإلا كانت الفوضى العارمة في الحزب الذي أسسه وفي ما بقي من كتلته النيابية وفي هذه الحكومة أو حتى في التي ستليها ..
مشروع «التوريث الديمقراطي» هو ذلك المشروع الذي بدأ تنفيذه على مراحل من قبل المجموعات الملتفة حول نجل الرئيس منذ سنة 2014 والقاضي بإبعاد الخصوم داخل حزب النداء الواحد تلو الآخر حتى لا يبقى سوى هو .. هذا المشروع الذي يتحمل الأب مسؤولية عدم وأده في المهد قد استقلّ تدريجيا عن إرادة رئيس الدولة وخاصة مع الوافدين الجدد ليصبح مشروعا قائم الذات بحكم الشبكة الزبونية الواسعة التي نسجها النجل بمعية جماعته وبحكم تفرده المطلق في القرار الحزبي باعتباره صاحب الباتيندة الجديد .. ولكن اليوم وبعد هذه الدقائق الإحدى عشرة تسارعت عقارب الساعة بما سيفرض نهائيا على الباجي قائد السبسي إما تعميد هذا المشروع أو القضاء عليه بدعمه وتأييده لرئيس الحكومة ..
لاشك أن هنالك ضغوطا عائلية وشخصية كبيرة على رئيس الدولة لكي ينصر نجله في هذه الواقعة الحاسمة ولكن حينها سيزول هذا الحياد الظاهري وسيكون للباجي قائد السبسي نفس المآل السياسي لمشروع التوريث هذا .. ولا نخال صاحب قرطاج غير مطلع على مدى الرفض الشعبي والنخبوي لكل مشروع توريث في تونس ما بعد الثورة ولا نخاله يجهل أيضا أن مجموعة حافظ قائد السبسي لا تملك مقومات الحياة السياسية لو رفع عنها ما يعتقد انه حمايته لها ..
كما لا تخفى على رئيس الدولة المضار الكبيرة على صورة تونس ومثالية انتقالها الديمقراطي داخليا وخارجيا من جرّاء مشروع التوريث هذا ومن صمته عليه إلى حد الآن ..
كل هذه المعطيات وغيرها ستكون حاضرة عند اتخاذ رئيس الدولة لقراره النهائي بشأن هذه الحرب المفتوحة بين رئيس الحكومة ونجله والجماعة الملتفة حوله .. قرار لن يكون سهلا بالمرة نظرا للضغوط العائلية المتوقعة .. ولكن من دفع بشعار «الوطن قبل الأحزاب» لا يمكن له أن يتصرف وفق منطق «والعائلة فوق الجميع» خاصة وانه سيعرض عائلته لهجمات قوية ولن تكون كلّها سياسية أو مهذبة ..
إن إخراج عائلة الباجي قائد السبسي من دائرة النقد والانتقاد وحتى السبّ والشتم لا يكون الا بطريقة واحدة : إخراجها كليا وجذريا من دائرة الحكم ومن تخومه أيضا ومن شبكاته الزبونية والمصلحية ..
نحن نعلم أن موقع رئيس الدولة لا يسمح له بالتدخل المباشر والصريح في هذا الصراع بين ابنه ورئيس الحكومة ولكنه يملك من الوسائط ما يسمح له ببعث رسالة واضحة لكل من يهمهم الأمر بأن مشروع «التوريث» قد انتهى وانتهى معه الدور السياسي لحامله وجماعته وان ابتعادهم بالكلية عن حضيرة الحزب الذي أسسه قبل ست سنوات هو الشرط الأول لإعادة التأسيس الجديد ولحسن الاستعداد للمواعيد الانتخابية القادمة ..
وانهاء مشروع «التوريث» لن يكون باتا ونهائيا إلا متى تم قبر المشروع الممهد له وهو ترشح رئيس الدولة لولاية رئاسية ثانية ..
قد يرى بعض المريدين في ذلك تضحية أكثر من اللزوم ولكن تامين البلاد وتحصينها من نفوذ اللوبيات والعائلات هو اكبر إسهام يمكن أن يقدمه الباجي قائد السبسي لتونس وهو في خريف العمر ..
ففي السياسة ،كما في كرة القدم ، العبرة دوما بالخواتيم وكم من خاتمة نبيلة جبّت اخطاء الطريق وتعثراته ..