فتم تعليق النقاش حولها وذهبت نقاطها المجمع عليها (63 نقطة) والنقطة المختلف حولها أدراج رياح هادئة ..
وكأننا عشنا طيلة شهرين كاملين في زمن منقطع عن الحاضر .. بدأ لكي لا ينتهي .. نوع من أنواع تجربة «اللقاء من الصنف الثالث» المؤسس لجلّ أفلام الخيال العلمي ..
ولكن هل بالإمكان اليوم نسيان هذا الذي لم يولد بعد بعد أن تهيكلت الحياة حول شروط انبجاسه ؟
سوف يسال حبر كثير حول سؤال ميتافيزيقي محيّر : من ذا الذي أراد قرطاج 2 ومن ذا الذي أفشله ؟ وهل ثمة «مؤامرة « ما ؟ ومن حاك خيوطها إن وجدت ؟
في بلادنا التفسيرات المباشرة المبنية على وقائع ثابتة لا تقنع أحدا .. بل قد يتهم صاحبها بالسذاجة لأننا نريد أن نرى في كل شيء «أصابع خفية» تحرك الخيوط من وراء الستار ..
ولكن مهما يكن من أمر فقد تم الغلق النهائي (؟) لهذا المسار ولكننا لم نعد بالضبط إلى الوضع السابق لأن كل ما قيل خلال هذه الأسابيع الماضية سيبقى مرافقا لكل الفاعلين السياسيين والاجتماعيين إلى نهاية هذه العهدة الانتخابية أي نظريا إلى خريف 2019..
ولكن ما هي حسابات الربح والخسارة الآنيين ؟
• الرابحان :
يبدو أن الرابحين هم من صنفين اثنين :ربح «الجدية والمسؤولية» وقد فازت به حركة النهضة التي ظهرت في الداخل والخارج كالطرف السياسي الاحرص من غيره على استقرار البلاد وعدم الزج بها في مغامرة غير محسوبة العواقب .. ربح فيه ذكاء تكتيكي كبير إذ لم تحرص الحركة الإسلامية على إضعاف شركائها في الحكم كما أنها لم تنبطح لإرادتهم كذلك وتمسكت بموقفها الداعي إلى تحوير جزئي وحكومة غير معنية بالانتخابات القادمة مع تفويض أمر رئيس الحكومة إلى رئيس الجمهورية أي أنها بقيت دوما تحت المظلة «الباجية» ..
أما الربح الثاني فهو ربح «التعالي» عن الضغوطات الشخصية والعائلية وهو ربح رئيس الدولة الذي واجه الرغبة الجامحة لنجله لإسقاط حكومة الشاهد ..
رسالة أراد من خلالها الباجي قائد السبسي أن يقول لعموم التونسيين أن المنطق الذي يحكمه هو منطق الدولة لا منطق العائلة فتعليق النقاش حول وثيقة قرطاج 2 هو ضربة سياسية لنجله المتشبث باسقاط الحكومة مهما كلفه ذلك ..
ولكن رئيس الدولة يعلم قبل غيره انه سيبقى متهما بترجيحه المنطق العائلي ما دام نجله في واجهة الأحداث وأن عامة الناس لن يميزوا بين قائد السبسي الأب وقائد السبسي الابن وهم سيرون في كل اختلاف ظاهر مجرد مناورة للثعلب العجوز ..
ولكن الملاحظ المنصف لما يدور في أروقة السلطة منذ أشهر لا يمكن له ألا يلاحظ الاستقلال التدريجي والمتعاظم للنجل وخضوعه الواضح لتأثير «المنتدبين الجدد» في حزبه وأنه أصبحت لديه معاركه المخصوصة والتي تحرج أباه في أحيان كثيرة ..
• الخاسران :
الخسارة هنا بدورها من صنفين أساسيين : خسارة المبادرة وفرض النسق التي مني بها الاتحاد العام التونسي للشغل في مغامرة بدأت بضرورة ضخ دماء جديدة في فيفري الفارط وانتهت بعد أسابيع قليلة بحتمية الإطاحة بصاحب القصبة بعد أن كانت المنظمة الشغيلة الحليف الأساسي ليوسف الشاهد وبعد أن أفسدت عملية مزدوجة نهضوية ندائية في أوت الفارط لإضعاف رئيس الحكومة ..
ما الذي غيّر بصفة جذرية وسريعة موقف المركزية النقابية من حكومة الشاهد ؟ سؤال لا يعلم أحد الإجابة الحقيقية عنه وان كانت الأخبار المتناثرة تؤكد بأنها كانت بالأساس عملية استباقية لهجوم حكومي (؟) مفترض على منظمة حشاد ..
ولكن الخسارة الرمزية الأكبر لاتحاد الشغل لا تكمن فقط في «تعليق النقاش» بل في فقدانه أثناء الطريق لمساندة اتحاد الأعراف ولوجوده في آخره في نفس الصف مع نداء تونس والوطني الحر ّ..
هذا الاصطفاف الذي لم ترده المركزية النقابية هو الذي شوش كثيرا على موقفها حتى داخل المنظمة الشغيلة ذاتها ..
السياسة صور ورموز بالأساس في عالمنا المعاصر .. والصورة الرمزية لنورالدين الطبوبي بمعية حافظ قائد السبسي وسليم الرياحي لم تمّر وأضرّت بالاتحاد .. صحيح ان الاتحاد لم يختر حلفاءه الظرفيين ولكن ذلك هو عالم الصور في السياسة العصرية ..
اما الخسارة الثانية فهي خسارة الرغبة والجموح والنهم السياسي. خسارة مشروع «التوريث الديمقراطي» الذي يريد أن يمثله حافظ قائد السبسي في البلاد اليوم ..
خسارة الحسابات الصغيرة التي تتعامل مع الدولة كلعبة عائلية نعوض عناصرها متى شئنا ولأي سبب كان .. خسارة السياسة ككعكة تقسم بيننا وبيننا .. لنا لبها وجوهرها وللبقية فتات موائدنا .. خسارة قيادة تستعمل أدوات بن علي في غير بيئتها وبغير «حرفية» أصحابها الأول.. خسارة محاولة فرض أمر واقع على كل التونسيين إما نحن أو الدمار ..
• المنتظر :
في الحقيقة كان يمكن حشر الحكومة ورئيسها في خانة المنتصرين أو الخاسرين فهي منتصرة لأن مسار وثيقة قرطاج2 لم يتمكن من الإطاحة بها وهي منهزمة لأنها فقدت أجزاء هامة من مسانديها ولكن الأنسب لحكومة الشاهد هي خانة الانتظار.. فلقد كانت الحاضرة بالغياب في هذه الأزمة الأخيرة وهي مدينة في مواصلة عملها للشيخين كما أنها خرجت منهكة من هذا الامتحان الذي فرض عليها وبتضامن داخلي مهزوز بفعل اشتغال معاول نداء تونس ضدها ..
كيف ستشتغل حكومة الشاهد في هذا المناخ الجديد الناتج عن «تعليق النقاش» وما سبقه ورافقه من رفض قوي وواضح لها من قبل اتحاد الشغل من جهة ونداء تونس من جهة أخرى؟
لا يظن عاقل بأن أزمة حكومة الشاهد قد انتهت يوم أمس بتعليق النقاش حول وثيقة قرطاج 2 بل ستتواصل الأزمات وسوف تتكاثر أمامها الصعاب وستجد أبوابا موصدة عديدة في كل عملية إصلاح تنوي القيام بها ..
ولكن مصير الحكومة سيكون بالأساس رهين تصرف رئيسها في الأيام والأسابيع القادمة ..
هل سيعتبر ان ما حصل إنما هو أزمة عابرة وسحابة صيف قد انقشعت ثم يواصل عمله بنفس الوتيرة السابقة اي الحذر الكبير والاحتماء المستمر بالمظلة الرئاسية ام سيدرك انه أمام منعرج سياسي حاسم للبلاد ولحكومته ولشخصه أيضا .. منعرج يستوجب قيادة جديدة بأفكار وأساليب مغايرة ؟
قيادة لا تخشى من خوض المعارك والإقدام على الإصلاحات الضرورية..
لقد راهن رئيس الحكومة منذ أشهر على سياسة ربح الوقت فاتضح انها سياسة قصيرة المدى وان الحكومات لا تساس بها ..
كما راهن يوسف الشاهد على الابتعاد عن الشأن السياسي المباشر فأعطى صورة المتذبذب وغير القادر على الحسم في الملفات الكبرى ..
في نظام شبه برلماني كما هو حال بلادنا رئيس الحكومة هو زعيم الأغلبية أي لو أراد يوسف الشاهد أن يستمر في القصبة وان يؤسس على ما يمكن له انجازه فيها فلا بد له من أن يصبح الزعيم الفعلي للاغلبية وهذا يستوجب منه خوض المعركة السياسية الحاسمة بينه وبين قيادة حزبه ..
هل يمكن للشاهد آن يجد النفس الثاني الذي يقدر به على خوض كل هذه المعارك مجتمعة ؟
هذا هو السؤال.