والأزمة ،كل أزمة، ليست بالضرورة أمرا سلبيا . بل أحيانا ما تكون ضرورية قصد الاستفادة من دروسها ومعرفة مواطن الخلل التي تتجلى بحكم تفاقم الأزمة ..
والسؤال الأهم هو ماذا كشفت الأزمة الأخيرة حول رحيل أو بقاء حكومة يوسف الشاهد ..
لقد كشفت الأزمة الأخيرة عن ضعف مؤسسات الدولة وعدم قدرتها على إدارة أزماتها فتراها تلجأ إلى هياكل موازية يدار فيها النقاش السياسي الجوهري في البلاد وتطبخ وتتخذ فيها القرارات الرئيسية ثم يطلب من مؤسسات الدولة الموافقة عليها بداية ثم تنفيذها ثانية..
لقد حصل هذا في 2013 وتشكل هيكل «الرباعي الراعي للحوار» وانضمت إلى هذا الحوار الوطني فيما بعد كل الأحزاب السياسية الممثلة بالمجلس الوطني التأسيسي وكانت من مخرجاته حكومة المهدي جمعة في 2014
ثم أعدنا الكرة بشكل جديد في 2016 بمبادرة رئيس الجمهورية بحكومة وحدة وطنية أنهت حكومة الحبيب الصيد وجاءت بحكومة يوسف الشاهد ..وها نحن نسعى لإعادة الكرة مرة ثالثة منذ خمس سنوات والثانية في نفس الإطار «حكومة وحدة وطنية» ولسنا ندري هل ستفرز حكومة جديدة رأسا على عقب أم ستكتفي فقط بوضع خارطة طريق للحكومة الحالية مع إدخال بعض التحويرات على تشكيلتها ..
لاشك أن لكل لحظة سياقها الخاص .. «فالرباعي الراعي للحوار الوطني» قد أنقذ البلاد من شبح حرب أهلية باردة ومن انحرافات التسلطية الإسلامية الناشئة وحكومة الحبيب الصيد قد انغمست فيما يشبه الجمود رغم التدهور المتواصل لكل المؤشرات وان حكومة الشاهد لم تنجح إلى اليوم في تمرير الإصلاحات الضرورية لإنقاذ الاقتصاد الوطني ..
وفي 2013 هبّت المنظمات الوطنية : اتحاد الشغل واتحاد الأعراف وهيئة المحامين ورابطة حقوق الإنسان لإيجاد الرد الملائم على الاغتيالات السياسية وتنامي الإرهاب وتسلط الترويكا بينما جاءت مبادرة 2016 من رأس السلطة التنفيذية المنتخب في حين أن ما نعيشه اليوم كانت منطلقاته سوء علاقة الحكومة الحالية مع المنظمات الاجتماعية وتضافرت معها حسابات حزبية معينة ..
ولكن في كل الحالات وخاصة في 2013 و2016 جاء التغيير من خارج مؤسسات الدولة ومن النصوص المنظمة للسلط العمومية («الدستور الصغير» في 2013 و«الدستور» في 2016 ) ثم تم تمرير القرارات والتغييرات عبر هذه المؤسسات ولكن باعتبارها فقط قنوات تسجيل وتنفيذ ليس إلاّ ..
نذكر جيدا أن المنظمات الأربع المشكلة للرباعي الراعي للحوار الوطني رفضت مأسسة هذا الهيكل واعتبر قادتها ، آنذاك أن البلاد تعيش في مرحلة انتقالية وخطيرة في نفس الوقت مما استوجب تدخلها لتيسير الحوار مع الفرقاء السياسيين .أما بعد الانتخابات العامة لخريف 2014 فالبلاد قد خرجت نهائيا من المرحلة الانتقالية ودخلت في بناء المؤسسات المنتخبة الدائمة وعليه لم يعد من مجال لمثل هذه الهياكل «الموازية» ..
وكان ذلك آنذاك عين الصواب ..
ثم جاءت فكرة «حكومة الوحدة الوطنية» كحلّ استثنائي لازمة الحكم وقد قال آنذاك رئيس الدولة بأنها الخرطوشة الأخيرة لمنظومة الحكم بالطبع لا للبلاد موحيا بذلك بأنّ الحكومة الجديدة هي الحكومة الثانية والأخيرة في هذه العهدة الانتخابية ..
ولكن ها نحن وفي منتصف المدة المتبقية قد نلجأ من جديد الى هيكل مواز «اجتماع وثيقة قرطاج» لكي نغيّر رئيس الحكومة أو نثبته ، وفي الحالة الأولى سيتولى البرلمان تزكية هذا القرار ولكن بما أننا أضفنا إلى هذا الإطار العام «خارطة طريق» جديدة تتضمن اكثر من 60 إجراء تفصيليا ومن بينها تشكيل لجنة لمتابعة تنفيذ هذه الإجراءات فسيكون الممضون على وثيقة قرطاج 2 هم الهيكل الأعلى في البلاد وهو المشرف الفعلي على السلطة التنفيذية (الحكومة) وعلى البرلمان أيضا ما دام قد حدد له سلفا جملة من الإجراءات ستتحول إلى قوانين وسيطلب من البرلمان تمريرها بأقصى سرعة ممكنة ..
ولنفترض جدلا بان وثيقة قرطاج 2 ستفرز حكومة جديدة .. فيا ترى هل ستكون هذه هي نهاية الأطر الموازية أم سنواصل على نفس المنوال قبل أو حتى بعد الانتخابات العامة في 2019؟
نحن هنا نتحدث فقط عن منطق المؤسسات في الديمقراطية الانتخابية ولا نتحدث عن الكواليس السياسية والخصومات الشخصية والحسابات الأنانية ..
نتحدث فقط عن طريقة حوكمة البلاد وعن إقرار فعلي لمؤسسات حكم دائمة تلغي نهائيا كل أشكال الحكم «الموازي» ..
في ديمقراطية انتخابية ذات مؤسسات قوية بإمكان المنظمات الاجتماعية المطالبة وحتى النضال من اجل إسقاط قوانين أو حتى حكومة ويكون ذلك عبر حشدها لأكبر عدد ممكن من المواطنين في مظاهرات ومسيرات إن رأت أن مصلحة البلاد تقتضي ذلك كما بإمكان البرلمان إسقاط الحكومة عبر سحب الثقة من رئيسها، كما بإمكان رئيس الدولة حل البرلمان أو
العكس بمقتضى كل نظام سياسي مخصوص .. ولكن القاعدة في كل ذلك أن الأزمات السياسية تحل وتدار وتناقش داخل المؤسسات المنصوص عليها في الدستور أو في الفضاء العام المفتوح لجميع المواطنين وبين هذا وذاك لا وجود لهياكل «موازية» لديها القدرة خارج الانتخابات على تحديد وجهة البلاد ..
لا ينكر أحد أن الهياكل الموازية يمكن أن تلعب دورا ايجابيا في مرحلة ما من تأسيس النظام الديمقراطي خاصة عندما تكون الأزمة حادة والمؤسسات الموجودة غير قادرة على امتصاصها وإدارتها ..
ولكن في هذه الوضعية بالذات تطالب هذه الهياكل الموازية بأعلى درجات التعالي عن المصالح الأنانية الضيقة وعن عقلية تصفية الحسابات وأن تلعب دورا تحكيميا يخفف من الاحتقان ويوفر الشروط الضرورية للاستغناء عن هذه الهياكل بالذات .. وهذا ما توفر بكل قوة في «الرباعي الراعي للحوار الوطني» وما غاب كثيرا أو قليلا في 2016 وخاصة في 2018 حيث ضعف الدور التحكيمي وطغت حسابات حزبية وشخصية ومواقف بلا أفق سياسي واضح ومعقول ..
ليس المطلوب أن تبقى حكومة يوسف الشاهد بل لعلّ شروط بقائها قد انتفت أو تكاد وحتى إن بقيت فهي لن تكون قادرة على إفادة البلاد لأنها ستتحول إلى مجرد آلة تنفيذ وستسحب منها كل ملكة للتخطيط وللتصور ..
المطلوب هو أن نقف جميعا للتساؤل حول المستقبل المنظور للبلاد وعن آليات إدارة الأزمات الطبيعية في كل مجتمع ..
ولكن الواضح أن لدينا أزمة حكم عميقة وتناقضا جذريا بين النصوص المؤطرة للنظام السياسي والممارسة الفعلية للحكم ..
لقد اخترنا نظاما خليطا بين البرلماني والرئاسي مع هيئات دستورية مستقلة وسلطة محلية .. هذا على مستوى النصوص .. أمّا على مستوى الممارسة فنحن في نظام رئاسي يضمر فيه دور رئيس الحكومة ويتحول إلى مجرد منسق ما بين الوزارات ونظام برلماني تتحكم فيه القيادات الحزبية وهيئات دستورية أو شبه دستورية في صراع مع السلطة التنفيذية وبرلمان يريد بسط هيمنته على كل الهيئات والمؤسسات باستثناء رئاسة الجمهورية
الواضح أن المنتصرين في انتخابات 2014 لم يكونوا مقتنعين بالمرة بالنظام السياسي الوارد في الدستور فتم تطويعه منذ البداية لملاءمته مع مركزة السلطة السياسية في قرطاج وترك الملفات الفنية للقصبة ..
ولكن حتى هذا التطويع لم يستطع الصمود إذ الدعوة إلى حكومة وطنية إنما هي إقرار ضمني بفشل مؤسسات الدولة في إدارة الشأن العام وإذا ما ما أضفنا إلى كل هذا الحسابات والمطامح الشخصية والحزبية للنداء وللنهضة نفهم بأننا أمام طريق مسدودة وأننا مازلنا بعيدين عن تأسيس فعلي للمؤسسات أي للهياكل التي ينتجها الدستور والتي ينبغي أن تكون فوق رغبات الأشخاص وأهوائهم ..
وضعف مؤسسات الدولة لا يعود فقط إلى منظومة الحكم الحالية بل وكذلك للمعارضات الأساسية التي عجزت الى حد الآن عن التأطير الأدنى للمواطنين وعن الوجود الفعلي والوازن في الميدان لان ذلك من شانه أيضا أن يحصن مؤسسات الدولة (كالبرلمان مثلا) وان يجعلها الإطار الأساسي للحوار الديمقراطي ..
لا يهم اليوم مصير حكومة الشاهد فهي ليست افضل من سابقاتها وتعويضها لن يمثل خسارة فادحة .. المهم اليوم هو تغيير جذري لحوكمة البلاد ولاعادة الصندوق الى مركز الاختيار والقرار ولممارسة سياسية منسجمة مع نص الدستور وروحه وان نحسم نهائيا مع الهياكل الموازية دون ان يعني ذلك الا نؤسس لحوار اجتماعي ومدني ولكن وفق القوانين المنظمة للحياة العامة .. فقط لا غير ..
ولعل بداية الحل تكمن في استقالة جماعية لكل منظومة الحكم حتى نعيد من جديد الكلمة للشعب وحتى لا نخسر بالكلية ما تبقى من هذه العهدة الانتخابية ..