والارهاصات الجديدة التي كشف عنها السباق الانتخابي، والتي تؤكد حدوث تغييرات على أكثر من مستوى. فالتفاوت جليّ بين الأحزاب على مستوى الحركة على أرض الواقع، والعمل الميداني، والإمكانيات المادية التي وضعت على ذمة المشرفين على الحملات الانتخابية. وقد تصدّر حزب النهضة المكانة الأولى على مستوى «سخاء» الميزانية المخصصة للحملات الانتخابية من إنتاج للفيديوهات وتنقّل بين الجهات ، وابتكار للشعارات، وغيرها، وكانت القيادات حاضرة بقوّة لا ينكرها أحد ملفتة الانتباه إلى قدرتها على تجديد وسائل الدعاية، وإن كان الأمر مثيرا لعدّة تساؤلات لعلّ أبرزها ما له صلة بالعدل بين المترشحين والرقابة على مستوى التمويل...
وتكمن الملاحظة الثانية في تغيّر موقف الأحزاب من تصدّر النساء القائمات، والحال أنّ معظمها كان يرفض أن تكون رئيسة القائمة امرأة. وبقطع النظر عن دوافع هذا التغيير(البراغماتية السياسية، جلب الناخبين، استعادة الثقة، سجّل ناصع للنساء يمكن التعويل عليه بعد أن 'تلوّثت ' أسماء عدد من الفاعلين السياسيين ...) فإنّ مشاركة النساء في العمل السياسي ستمكّن هؤلاء من فرصة التدرّب على تحمّل المسؤوليات وإثبات الجدارة ، وكسب ثقة المواطنين. ولئن عوّلت بعض الأحزاب على الكفاءات المعروفة دون تركيز على «التشبيب» فإنّ أصحاب المبادرات المستقلة فتحوا المجال أمام الشابات ليبرزن باعتبارهن يمثلن رسالة أمل تقطع مع سنوات التهميش والإقصاء.
وكعادته أبى حزب النهضة أن يكون مثل بقية الأحزاب فاختار لنفسه توجّها مغايرا فراهن على نساء بملامح مخصوصة توحي بالحداثة الشكلية مكرّسا بذلك الممارسات البراغماتية ومشرّعا استغلال عدد من النساء في العمل السياسي، وتحويلهن إلى «ديكور» أو وسيط يحمّله رسالة طمأنة إلى الداخل والخارج. وترتّب عن هذا الاختيار المفروض من فوق، والذي لم يتم بطريقة تعتمد «الشورى» مبدأ للتفاوض في الخيارات، الفرز بين المترشحات. فهناك النهضاويات الأصيلات والحقيقيات «Authentique» والأخوات المناضلات صاحبات الخبرة في مقابل الدخيلات والوافدات والخارجيات والبعض يطلق عليهن عبارة الانتهازيات والأميّات إذ لا ثقافة سياسية لأغلبهن ... وهكذا رسّخت النهضة الانقسام وفق ثنائية الأنا/الآخر وخلقت نوعا من التباغض داخل الكتلة النسائية. ولاشكّ أنّ الانقسام داخل حزب النهضة بسبب هذه الخيارات الجديدة، قد بات معلوما إذ عمّت مشاعر الاستياء والغضب وما عاد بالإمكان كتمها بل هناك رغبة لدى البعض في مقاومة «هيمنة الشيخ» من خلال إرساء أحزاب جديدة تعكس التوجهات «الحقيقية» لحزب بمرجعية إسلامية. وهذه ديناميكية جديدة داخل الحزب لابد أن تذكر حتى وإن تجنب الناطقون باسم الحزب الاعتراف بها.
وتتجلّى ملامح هذه الديناميكية الجديدة في زحزحة بعض التمثلات. فبعد أن كان يصعب اعتبار المحجبة «ندائية» صار الأمر مألوفا ، وها أنّنا نكتشف اليوم أنّ من ترتدي «الجنز المقطع» يمكن أن تكون مؤيدة لحزب النهضة عمولة داخل أطره. وبعد أن كان ينظر إلى «الندائيين» على أساس أنّهم حملة المشروع الحداثي بات بعضهم يعادي تسليم «المشيخة» لامرأة لا يقبل حضورها في الجامع الأعظم...وبناء على ذلك ما عاد بالإمكان الحكم على الأشخاص من خلال مظهرهم الخارجي.
لا تنبع هذه الدينامكية من فكر سياسي طوّر مصطلحاته وفهمه للواقع وابتكر خطابا متلائما مع الواقع بقدر ما هي مقاومة وردّ فعل على تجربة استقطاب حدّي جعل بعضهم يصمم على تجاوزه بطرح البدائل على مستوى الفاعلين الجدد : المستقلون، الشباب، النساء ، وأسماء القائمات التي تعكس ارتباطا بالوطن والوحدة الوطنية. ومهما يكن الأمر فإنّ هذه الديناميكية تحتاج إلى مزيد التفعيل بضخ روح جديدة تنبض بالحياة والرغبة والإرادة على تجاوز العقبات واستخلاص العبر من التجارب المريرة.