كلما واجهت طلبات أو إشكاليات اجتماعية ، أو اعترضتها صعوبات في التمويل أو التصرف. و على خطاها، أصبحت النقابات تتعامل على وقع «خذ و طالب» لترضية قواعدها ولتأمين ما أمكن للمستقبل عند الحصول على تأجيل الاستجابة لبعض المطالب .
هذه المعادلة لم تتوقف على النقابات فقط بل على مختلف الجمعيات و الماسكين بتنظيم وقيادة الحركات الاحتجاجية في مختلف المجالات، لذلك تعيش البلاد منذ سنوات على وتيرة التبرّم والتذمّر والمطلبية بصورة دائمة،و هو ما جعل مختلف الفئات و القطاعات تتداول على ممارسة الضغط على الحكومات المتعاقبة .
وبما أن كل الحكومات تحاول أن ترضي الجميع و تريد أن تبرهن على قدرتها على حسن التصرف و الإدارة و على التعامل السياسي السليم مع متطلبات التطلعات «الثورية» الجديدة، فإنها سقطت في الترضيات و الاستجابة لمختلف المطالب ، دون إقتناع ،و وصلت في بعض الأحيان إلى السخاء المفرط خاصّة بالنسبة للحكومات المؤقتة ، الّتي كان روادها يزرعون «في المؤقت» على أمل أن يحصدوا في «الدّائم» .
من هنا دخلت البلاد في حلقة مفرغة، ولجأت إلى التداين ، لتتمكن من الاستجابة إلى المطالب، و لمجابهة تبعات الأزمة الّتي أصبح يعيشها الاقتصاد التونسي الّذي أتى على الاحتياطي ولم يتوصل إلى ضخ أموال جديدة بسبب تعطّل الإنتاج وانسداد آفاق الاستثمار والتغيرات وصعوبات تعيشها السوق الدولية عموما .
لذلك تضخمت فجأة القوى العاملة بانتدابات فرضتها خيارا ت سياسية وزاد نظام التأجير انخراما و توسّع للإنجرار في التعديل الشامل، وضعفت الإنتاجية لغياب الحزم في العمل وللتعطيلات المتكرّرة له. كما فرض التنظيم السياسي الجديد رصد تمويلات جديدة لهيئات مستقلّة و هياكل مستحدثة وللإستجابة لتلبية مستلزمات المجلس التأسيسي الّذي مطّط في وجوده و مستلزمات مجلس نواب الشعب الّذي رفع في حاجياته ..إلخ
و في المقابل تسبب تأجيل تطبيق بعض الاتفاقيات الاجتماعية وعدم القدرة على الاستجابة لما تمّ الوعد به لتحسين المقدرة الشرائية أو لانتداب اليد العاملة و أصحاب الشهادات العليا ، في الضغط الدّائم الذي أصبحت تعيش على وقعه كل الحكومات ، الّتي أصبحت تتغير بسرعة بسبب الضغط المتزايد و مستلزمات التهدئة أو إستجابة لمقتضيات التوافق الّذي أصبح قاعدة أساسية في التعامل السياسي بعد انتخابات 2014 .
لقد تمّ فتح كل الملفات في الحقبة الأخيرة ،ولكن لم يغلق أي منها ولم يعالج أي ملف، فلا تم تعديل نظام التأجير ولا تمّ حل «تضخّم» الزاد البشري في بعض المؤسّسات العمومية، ولا تمّ الإصلاح الهيكلي للمؤسسات العمومية والصناديق الإجتماعية ، ولا تم الحد من توسع التهريب أو إيجاد حل للتهرب الضريبي ، ولا تم إصلاح التعليم العمومي و الخاص ولا حل اشكاليات الصحة و لا تمّ إصلاح المنظومة القضائية ، و لا تم إصلاح العمل البلدي و العمل الإداري...
ففي كل هذه المجالات ألغام و «خطوط حمراء»، ورغم ترتيب الأولويات و إعادة ترتيبها ، فإنه لم يقع الجلوس للنظر في موضوع محدّد من البداية إلى النهاية و وضع رؤية استراتيجية تسطرها الدولة و تتشاور فيها مع كل الأطراف و تمضي مباشرة في تفعيلها بعد دراسة جادة للمردودية والأهداف.
لذلك لم يقع إصلاح أي شأن ، وتحوّلت الصراعات أحيانا إلى «الشخصنة» وأصبحت المؤسسات أشخاصا و تحول بعض الأشخاص إلى مؤسسات ،مّما أدّى إلى تدني لغة الحوار وتم تغليب التلاسن على التخاطب الرصين والمتزن.
إن الأوليات في الأزمات هي أساسا الإجراءات العاجلة الّتي تُخرج البلاد من أزمتها ، أي ما يجب توفيره للزيادة في الإنتاج والإنتاجية و الاستثمار والضغط على المصاريف لتوفير الموارد لصندوق الدولة ، كي يصبح قادرا على الاستجابة لحاجيات المواطنين.و في الاتفاق حول هذا ،ملامسة للحلول دون شيطنة هذا الموقف أو ذاك ، مع فرض احترام القوانين الموجودة أو تغييرها إذا كان من الصعب تنفيذها ، و التوقف عن التهرب من تحمّل المسؤولية أو الهروب إلى الأمام لفرض الحلول الوسطية، ولا مفر من إدارة الممكن في هذه الظروف الصعبة حتى لا نضطر عند تعميق التأزم للجري لبلوغ الممكن.