ومن جلّ وسائل الإعلام رغم الجهد الكبير الذي يبذله كل الزملاء في مختلف الوسائط الإعلامية ولكن يبدو أن إدارة الحوار الوطني الديمقراطي ورعايته أصبحت مهمة شبه مستحيلة لمهنتنا بحكم القيود المفرطة المفروضة من هيئة الانتخابات وهيئة الاتصال السمعي البصري وإن كنا لا نشك في حسن النوايا وفي إرادة تجسيم العدل والمساواة في النفاذ الى الإعلام بين مختلف المتنافسين ولكن أحيانا « كثرة» الديمقراطية تقتلها لأنها تكبلها بقيود لا قبل للناس بها ..
نحن ندير الانتخابات الرابعة بعد الثورة وإلى الآن لم نوفق في التوازن الضروري بين حق المترشحين في معاملة إعلامية عادلة ومتساوية وبين حق المواطنين في تأطير الحوار الوطني الضروري في مثل هذه المناسبات..
يبدو أننا لا نميز بعد في تونس بين فترات « التعبير المباشر» و «الحوار الانتخابي» ففي الأول لابد من ضمان ولوج مماثل (شكلا ومضمونا) لكل المترشحين الى وسائل الإعلام السمعية والبصرية العمومية يكون عادة في ومضات مسجلة بنفس الشروط وتتوزع بالتناسب بين مختلف القائمات المترشحة ولكن حتى في هذه الحالة فقد اخترنا نموذجا سيئا في 2011 و2014 عدلنا فيه جزئيا في 2018 والخطأ هنا هو الانطلاق من رغبات المترشحين لا من الممكن والمتاح والناجع إعلاميا وسياسيا ونقصد به وقتا محدودا يكون قادرا على جذب المستمع والمشاهد ويوزع سواسية بين مختلف الأحزاب والائتلافات ..
لا يشكك احد في الإضافة التي قد تقدمها القائمات المستقلة في هذه الانتخابات أو في غيرها ولكننا بصدد أمر غريب في الحقيقة اذ القاعدة في كل الديمقراطيات أن تترشح الأحزاب للانتخابات وحق تكوينها مكفول للجميع بالدستور والقانون فالمنظومة الحزبية هي العمود الفقري لكل منظومة ديمقراطية وكما ان على الأحزاب التزامات مادية ومعنوية وقانونية فلها حقوق كذلك ومن بينها أن يسمح لها إبان المواسم الانتخابية أن تتناقش وتتجادل أمام الرأي العام للإقناع ببرامجها ووجهة نظرها ..
في هذه الانتخابات تقدمت 860 قائمة مستقلة من مجموع 2074 قائمة بما يمثل %41.5 من القائمات فقررت الهيئتان ان تمتع مجموع هذه القائمات بـ%36 من نسبة التغطية والنهضة التي قدمت 350 قائمة بما نسبته %16.9 من مجموع القائمات لا تحظى الا بنسبة %12.5 من التغطية بينما آفاق تونس الذي قدم 43 قائمة بما نسبته %2.1 يحظى بتغطية قدّرتها الهيئتان بـ%3 والاتحاد الشعبي الجمهوري الذي قدم 6 قائمات بما نسبته %0.3 يحظى بتغطية تتجاوز ثلاثة اضعاف حجمه ..
قدمنا كل هذه الأرقام لكي نؤكد بأن المنطق الذي ساد ليس هو منطق الرياضيات الصرف بل منطق «التمييز الايجابي» للأحزاب التي قدمت اقل عدد من القائمات وكأننا نريد معاقبة الأحزاب التي تستعد كما ينبغي لهذه المواعيد..
ولكن ما لم نتمكن من فهمه هو تخصيص القائمات المستقلة بـ%36 من نسبة التغطية فهل سيتوزع وقت التغطية بالتساوي بين كل القائمات المستقلة ؟ ! أم أن مائة أو مائتي قائمة مستقلة ستحظى بنصيب الأسد تاركة الفتات للبقية ؟ ! ثم كيف سننظم الحوار الوطني المطلوب بين كل هذا الكم من القائمات المترشحة ؟
إن الحرص الشكلاني قد طغى على حق المواطن في الإعلام فأغرقنا العرض دون أن نأخذ بعين الاعتبار مقتضيات الطلب الانتخابي وهذا هو الأساس في العملية الديمقراطية.
كان المنطق يفرض بأن تحظى كل القائمات الحزبية والائتلافية التي تجاوزت 35 قائمة (اي %10 من مجموع القائمات ) جوهر النقاش الديمقراطي التعددي في وسائل الإعلام السمعي البصري مع تمكين كل القائمات الحزبية والمستقلة الأخرى من نفاذ معقول ضمن خانة «التعبير المباشر»
غريب الا ندرك اليوم في تونس انه لا ديمقراطية دون تعددية فعلية تعكسها وسائل الإعلام ولهذا لا نفهم لم لم تتم المراهنة على مهنية ونزاهة وسائل الإعلام مع إيجاد الضوابط والردع إن لزم الأمر حتى تتحول هذه الحملة الباردة والمتلعثمة بحكم عدة أخطاء تقديرية قامت بها هيئة الانتخابات لاسيما في ما يتعلق بالبيانات الانتخابية إلى نقاش وطني تعددي يمزج بين المحلي والجهوي والوطني حتى يكون المواطن / المشاهد هو الفيصل غدا عندما يتحول إلى مواطن / ناخب ..
أملنا الوحيد ألا نعيد نفس هذه الأخطاء في الانتخابات العامة في نهاية 2019 أما بالنسبة لهذه الانتخابات الهامة والمصيرية فقد سبق السيف العذل .