قد يكون هذا أو ذاك بحسب المزاج النفسي للسائل وللمجيب.. فهي مهازل ان رمنا الضحك وهي مآسي ان غلبتنا الحسرة على هُزال المشهدية السياسية والحزبية والمؤسستية في بلادنا...
لا نريد أننقف عند حجم الاسفاف الذي ظهر يوم أمس من تهديد بالتفجير أو السعي إلى التشابك بالأيادي أو بدعة الغياب الحضوري والتداول على الكلمة دون تسجيل الحضور أو عدم تطبيق النظام الداخلي بإعلان عدد الحضور أو بالتحيل في احتساب الغائبين الحاضرين/ المتدخلين للاعلان على حصول النصاب القانوني...
ولا يهمنا كذلك كثيرا تشويش أعضاء كتلة حركة النهضة الحاضرين غير المسجلين لحضورهم على جلسة أرادوا منع انعقادها بكل الطرق وقد كانوا منذ أسابيع قليلة يتهمون بعض كتل المعارضة بالفوضوية والانقلاب على الديمقراطية في جلسة المصادقة على مشروع قانون المصالحة الادارية والحال أن كتلة النهضة قد مارست يوم أمس ما كانت قد أدانته في شهر سبتمر الماضي وتحالفت ليوم واحد مع من أدانت أسلوبهم في يوم سابق..
كل هذا في الحقيقة زبد يذهب جفاء... في بلد جلّ ما فيه زبد وجفاء...
أما الأخطر على البلاد وعلى مسارها الانتقالي فهو تحالف الأصدقاء والخصوم ضدّ المبادئ الأساسية للحد الأد٫ى من العيض المشترك القائم على احترام قواعد قانونية موضوعية بغض النظر عن المستفيد منها الآن ونها والالتفاف عليها اما بالقوة أو بالحيلة (والأصحّ هو التحيّل) أو بتطويعها وكسر رقبتها وفق الرغبة الحزبية لكل قبيلة على حدة.. أما البلاد والدولة فلتذهبا إلى الجحيم ...
منذ أيام قليلة كتلة الحزب الحاكم (النداء) مع كتلة متحالفة/متخاصمة (الحرّة) من أجل اسقاط توافق أمضت عليه كل الكتل بما فيها النداء والحرة والخاص بالتصويت الجماعي لقائمة بأربعة أسماء تمثل نصاب البرلمان من المحكمة الدستورية فصوت لمرشحته فقط ثم نقضت كتلة الحرة فيما بعد تعهداتها رفقة النداء وأسرعت الحكومة بالاعلان عن مبادرة تشريعية لتغيسير قواعد اللعبة بالانتقال من الأغلبية المعززة (ثلثا أعضاء المجلس) إلى الأغلبية البسيطة) في خرق واضح لفلسفة الدستور واستقلالية أعضاء المحكمة الدستورية والطعن المسبق في مشروعية من سيكون الحكم الأساسي في كل النزاعات حول ترسانتنا القانونية غدا..
وتواصلت أزمة الأخلاق هذه وأولوية منطق القبلية على الدولة في مسألة التمديد لهيئة الحقيقة والكرامة من عدمه...
هنالك خلاف في قراءة نص قانوني وهذا الأمر طبيعي ولكن في بلاد تحترم مؤسساتها وأحزابها منطق الدولة اللجوء إلى حَكمٍ يُقبل بحكمه وتحكيمه... والحكم الوحيد هنا هو المحكمة الادارية وكان من المفروض من هيئة الحقيقة والكرامة ومجلس نواب الشعب كمؤسستين للدولة التونسية أن تلجأ سويا الى المحكمة الدستورية للفصل في هذا الخلاف... ولكن ما العمل عندما ترفض هيئة الحقيقة والكرامة كل تحكيم وعندما تسندها بعض القبائل السياسية في ذلك تحت شعار «انصر أخاك ظالما أو مظلوما»...
لقد كان بالامكان اللجوء المشترك الى هذا الحكم والقبول بحكمه وتحكيمه ثم النقاش داخل مجلس نواب الشعب لكي يدافع كل طرف عن رأيه...
ولكن لا .. هذا يحصل في الدول التي يُحترم فيها منطق الدولة وقواعد العيش المشترك، أما في مجتمع القبائل فالمغالبة هي المقياس وكل الوسائل تصبح مباحة لفرض الرأي بالقوة أو بالضوضاء..
نعلم جميعا أم مسألة العدالة الانتقالية تقسم التونسيين بين معد لها باعتبارها تستهدف «رموز الدولة التونسية» وبين مساند لها أيا كانت تجاوزات لهيئة الحقيقة والكرامة وبين من يقف بين هذا وذاك...
كما نعلم جميعا بأن النخبة السياسية منقسمة حول تقييمها لأداء رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة...
ولكن الاصطفاف الأعمى القبلي والايديولوجي هنا أو هناك هو الذي لا يمكن أن نفهمه ولا يمكن أن نقبله...
فالحريص على احترام المؤسسة التشريعية باعتبارها السلطة العليا في البلاد ما كان له أن يتهلاعب بها عندما نقض عهدا قطعه على نفسه وأخلّ مع سابقية الاضمار باتفاق أمضى عليه...
ومن يدافع عن تأويل هيئة الحقيقة والكرامة لنص قانوني حول من يجوز له التمديد من عدمه ويعتبر أن قراءة الهيئة هي القراءة القانونية الوحيدة ما كان له أن يصمت عندما سفهت نفس هذه الهيئة أحكاما قضائية وعندما تشتغل منذ أكثر من ينة خارجة عن النص القانوني الواضح الذي ينظم النصاب الضروري لانعقاد مجلسها...
هنالك من يريد أن يجعل من هذا الخلاتف صراعا يشبه الحرب الأهلية بين «الثورة» و«أنصار النظام القديم».. حرب تستعمل فيها مل أصناف «الأسلحة» حتى لو خرّبت منطق القواعد القانونية المتواضع عليها..
لقد بينت هذه الأيام الأخيرة، مرة أخرى أن «الوفاق» بين «الشيخين» و«الحزبين» هو وفاق مغشوش انبنى على ضمان مصالح متبادلة وفق قراءتين زبونيتين لهذا وذاك وأن فكرة «المصالحة الشاملة» انما من خداع متبادل: تحمي جماعتي بالتصويت على قانون المصالحة الادارية وأحمي جماعتك بالمحافظة على هيئة الحقيقة والكرامة وخاصة في جانبها المادي التعويضي.. ولكن هذا الوفاق مغشوش منذ البداية فالمنطق الزبوني للطرفين منطق متناقض لا فيما يهم الرهانات الكبرى للبلاد ولكن فيما يهم ارضاء المخاوف والمطامع للشبكتين الزبونيتين المتنافرتين...
أما الموت البطيء للبلاد والأزمات الاقتصادية والاجتماعية القادمة وانعدام الأمل عند جلّ شبابناوقواها الحية وأزمة المدرسة رالصحة وكل المرافق العمومية فذلك لا يعني لا انتحاريي الساعة الخامسة والعشرين ولا المدافعين الشرسين عن شبكاتهم الزبونية.
انه منطق القبلية الذي يكتسح اليوم كل الفضاءات والهيئات والمؤسسات..
الكل يدّعي في انقاذ البلاد فلسفات ولكن الكل منتصر لقبيلة وإن أدى ذلك إلى وأد الدولة نهائيا...