قد يهتم بعضنا بمصير الحكومة الحالية وبالاستقرار السياسي وشروطه ولكن السؤال اليوم عند الجميع وخاصة عند الشباب وصغار الكهول هو: « هل مازال لدي مستقبل في هذه البلاد ؟ !»
هذا السؤال الذي نسمعه قويا أو خافتا عند الجميع هو سؤال قاتل لأنه يلغي منذ البداية الإجابة الجماعية المتفائلة وكأنه استبطن فكرة الإخفاق الجماعي وبقي فقط يبحث عن حل فردي لكي لا توؤد أحلام جيل كامل ..
«هل مازال لدي مستقبل في هذه البلاد ؟ !» سؤال يختزل كل الأسئلة ولكن تعجز كل أجوبة السياسيين والنخب بصفة عامة عن تقديم جواب في مستوى هذا السؤال ..
يمكن أن نقدم كل الأرقام والتعهدات وأن نستشهد بكل نماذج النجاح -وهي موجودة وكثيرة في بلادنا – ولكن كل هذا لا يجيب عن سؤال ملايين التونسيات والتونسيين « هل مازال لدي مستقبل في هذه البلاد ؟ !»
في الحالات العادية وفي المجتمعات التي تشتغل بحد أدنى من المعقولية لا يطرح على نفسه هذا السؤال إلا من ضعف تحصيله المعرفي أو قلّت حيلته الاجتماعية أو فاقد لروح المبادرة والمغامرة .. أما الأصناف الأخرى والتي تمثل دوما غالبية جيل بعينه تدرك حدسا أن عملها ومثابرتها وذكاءها وجهدها سوف يوفر لها مكانة تحت الشمس كما يقال .. صحيح لا يوجد مسار فردي مؤمّن من غوائل الزمن ولكن في المجمل الأعم المجتمع المنظم والحي هو ذاك المجتمع الذي يكافئ أفراده بحسب الجهد والطاقة وبحكم تنوع وفاعلية المصاعد الاجتماعية بدءا بالمدرسة وصولا إلى عالم الشغل والمؤسسة..
المجتمعات التي تعطبت وتعطلت فيها مصاعدها الاجتماعية يحق لها أن تخشى على حاضرها ومستقبلها ..
المصعد الاجتماعي هو الروح التي تعطي الحياة لمجتمع ما فينتقل فيه الأفراد من وضع إلى آخر وفق الجهد والاجتهاد والتميز سواء كان ذلك في المدرسة أو المؤسسة أو النبوغ الفردي في الرياضة أو الفنون ..هذه الحركية الاجتماعية التي لا تعتمد فقط على توارث الرأسمال الرمزي أبا عن جدّ بل تقحم مقادير من الصعود والنزول نتيجة الكفاءة الفردية هي التي تجعل النجاح متاحا للجميع ..
انه من المبالغة القول بأن المصعد الاجتماعي لم يعد يشتغل بالمرة في تونس ولكن وتيرة إدماجه قد ضعفت كثيرا إلى درجة أن التفوق فقد بريقه وذلك لان كل السياسات العمومية لم تعد تراهن على فاعلية المصاعد الاجتماعية منذ ثلاثة عقود على الأقل بل سعت فقط إلى سياسات توزيعية للحد من الفقر المدقع عبر برامج اجتماعية لها كلفة ولاشك مرتفعة وكذلك باللجوء إلى آليات العمل الهش لاستيعاب الأعداد المتزايدة من العاطلين عن العمل وخاصة من أصحاب الشهادات العليا منذ حوالي العقدين من الزمن .. دون أن تشتغل على أصل الداء وهو توفير فرص النجاح والتفوق العلمي والمهني لجميع أبنائها..
لقد كانت ثورة 17 ديسمبر 2010/ 14 جانفي 2011 فرصة استثنائية لإصلاح هذا العطب في أهم محرك لإنتاج ورعاية الحلم الجماعي المشترك ولكن لابد من الإقرار بأن هنالك إخفاقا عاما يتحمل السياسيون جزءا هاما فيه لأنهم لم يفهموا هذا الطلب العميق من المجتمع ولم يتهيؤوا له واستعاضوا عنه بقضايا الهوية أولا ثم المحاصصات ثانيا ، ولكن النخب بالمعنى الواسع للكلمة ،مسؤولة أيضا لأنها لم توظف مناخ الحرية للتفكير بعمق في هذه القضايا ولاقتراح الحلول الممكنة لإعادة هذه الحركية الضرورية في المجتمع ..
إن مدرسة تنتج التفوق والامتياز في منطقة ريفية بالبلاد أعظم أثرا من الصراع على التمديد من عدمه لهيئة الحقيقة والكرامة على سبيل المثال أو من الحوار الهام حول نظام الاقتراع ورغم ذلك لا تحتل مسألة التفوق المدرسي للجميع أية مساحة في النقاش العام ولم يهتم بها أي حزب ولا أولتها منظمة وطنية العناية التي تستحق .. وكأنّها مسألة طوباوية لا تتاح للناطقين بالضاد..
يخطئ من يعتقد أن مسألة كهذه هي مسالة اختيار إيديولوجي بين اليمين واليسار .. إنها مسألة اختيار حضاري ومجتمعي يتجاوز كل تصنيفات اليمين واليسار ..فالمساواة بين المواطنين ليست فقط مسالة قانونية مجردة انها المساواة في الفرص ومساواة في جودة التعليم والتكوين ومساواة في الشغل لا بمعنى التماهي ولكن بمعنى العدل والإنصاف بما في ذلك التمييز الايجابي اي عدم التعامل مع أطفال أو شباب غير متساويين في رأس مالهم الرمزي بالمساواة..فالمساواة في هذه الحالة هي عين الغبن وهذا ما فهمته دول ليبرالية عديدة وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية منذ ستينات القرن الماضي ..
مدرسة التفوق لكل أبناء تونس من السنة التحضيرية إلى الدراسات ما بعد الجامعية هي حجر الزاوية في كل مشروع إصلاحي فعلي لا يتناحر فيه التونسيون بل يبنون مستقبلا أفضل معا ..فهل اهتم أحد بهذه القضايا منذ سبع سنين ؟ لا أحد أو يكاد ..
مشكلتنا اليوم لا تكمن في وجود أكثر من ربع مليون تونسية وتونسي (270.600 تحديدا ) عاطلين عن العمل من أصحاب الشهادات العليا ..مشكلتنا اليوم أن جل هؤلاء حاملون لشهادات لا تؤهل للتفوق المهني أو حتى للعمل ذي الفاعلية الدنيا ..
مشكلتنا ان جل خريجي جامعاتنا ليست لديهم المهارات والمكتسبات الدنيا لعالم الشغل اليوم من امتلاك جيد للغتين أو أكثر ومخزون معرفي عالي الجودة واستعداد ذهني للمنافسة والتألق ..وهذا كله نتيجة عقود من خيارات تربوية وبيداغوجية واجتماعية فاشلة ..وإن لم نتدارك جلّ هؤلاء بتكوين تكميلي جدّي وعميق فلن يكون لشبابنا هذا من مستقبل لا في البلاد ولا خارجها.. فعوض أن ننكب على هذا فاقمنا الأزمات وأصبنا حتى المتفوقين من شبابنا بسلسلة من الاحباطات فأصبح جلهم يفكر في مغادرة البلاد وخوض مغامرة الحياة خارج حدود الوطن ..
من المهم أن نتوافق على حكومة تقود البلاد وعلى الإصلاحات الضرورية للاقتصاد وعلى أفضل نظام انتخابي ..ولكن لو ننسى الأهم، لو ننسى حسن إعداد بناتنا وأبنائنا وإعادة تشغيل المصعد الاجتماعي بأقوى سرعة وفاعلية ..لو ننسى هذا فلن نجيب عن سؤال الملايين من شبابنا «هل مازال لدي مستقبل في هذه البلاد ؟ !» بل كل ما نقوله له سيفهم بأن لا أحد معني بمستقبل البلاد وأبنائها..
لقد دُعينا في أكثر من مناسبة للتضحية ولكن لم نُدْعَ مرة واحدة للعمل على بناء مستقبل أفضل لشبابنا وأبنائنا ..فان كان لابد من تضحية فلتكن هناك ..
في كل مدرسة أو فصل أو قاعة محاضرات تنتج الامتياز للعدد الاكبر من شبابنا ..