ولندع لهؤلاء الفرصة للاستمتاع بوهم القدرة على التحكم في صناعة الرأي العامّ ...فما يحدث هذا الأسبوع في بلادنا يتجاوز في تقديرنا، الأفق المعرفي المعهود وحدود الممكن، وتقصر العدّة المنهجية المتاحة عن تفكيكه. فلا فهمنا لطبيعة الاحتجاجات يتطابق مع ما نُعاينه ، ولا إدراكنا لخصوصية الحركات الاجتماعية وما تقوم عليه من مرتكزات ينسجم مع ما نشاهده ، ولا تحديدنا لمواصفات الغضب الشعبي يتلاءم مع ما نلاحظه من انفعالات ، ولا تحليلنا للمواقع الهامشية للشخصيات المحفزّة على الفوضى يتطابق مع ما نستمع له من خطابات بعض النواب الذين صاروا يؤلبون الجماهير على ممارسة العنف ...
وأمام تعقد الوضع وما نلاحظه من التباس الظاهر بالباطن ، وتشابك خيوط اللعبة إلى حد الإلغاز لا يسع العاقل إلاّ إبداء بعض الملاحظات والنأي بالنفس عن ادعاء الفهم.
- لم تستفد الطبقة السياسية من النقد الموجه لها منذ انطلاق مسار التحول الديمقراطي ولم تظهر استعدادا لتطوير قدراتها وخطاباتها وتنمية معارفها وتغيير سلوكها. ولم يتحول الاعتراف بالأخطاء المرتكبة إلى ممارسة ديمقراطية بل صار الشعار الرسمي «صم بكم لا يعقلون». فمهما ندد البعض بسلوك بعض السياسيين وهشاشة تجربتهم وطالبوا بالمساءلة فإنّه لا مجيب. وحين تحدث القطيعة بين الفاعلين السياسيين والجماهير يعسر بناء جسر التواصل.
- ظل بعض الهواة والمتطفلين مصرّين على اقتحام المجال السياسي بعدّة أقلّ ما يقال عنها أنّها عدّة «البلطجية». فلا غرابة أن يصبح الاحتكام إلى الشارع هو المعيار للفصل بين الخصوم السياسيين وأن ينفلت العقال ويغدو «العنف سيد الميدان». وحين يصدر خطاب التحفيز على ممارسة العنف من بعض ممثلي السلطة التشريعية فلا تسل عن تحرّك الجموع وتجاوزهم لسلطة القانون.
- أثبتت محاولة إدارة الأزمة وتطويقها ارتباكا على مستوى اتخاذ القرارات والتواصل مع الجماهير وهشاشة على مستوى الأداء، وهو أمر لا يبعث على الاطمئنان في مجتمع لا يزال يحمل تمثلات محددة عن «الحاكم» ومازالت أزمة الشك في النوايا، وانعدام الثقة متأصلة.
- محاولات تحديد المسؤولية تتجه دائما صوب «الآخر» فهو الشماعة التي نلقي عليها أخطاءنا حين يحل الدمار إذ لابد من وجود «كبش فداء» ...ونادرا ما استمعنا إلى خطاب يتحمّل فيه الواحد كامل مسؤولياته. ولذلك يٌدين الإعلامي السياسي وكأنه غير مسؤول هو الآخر عن استشراء الرداءة من خلال البحث عن نماذج من الفاعلين السياسيين المحدثين لـ «البوز» أو افتعاله وتغييب القادرين على تصحيح المسار، ويدين المواطن الدولة والحكومة وكأنه لا دخل له في ما آل إليه الوضع...وتُدين الأسر «الحاكم» وكأنّ لا مسؤولية لها في العملية التربوية وفي بناء شخصيات هشة...
- كشفت الأحداث الأخيرة أنّ السياسات التي اتخذت تحت سطوة الانغماس في الشعبوية، قد عمّقت الفجوة بين القانون والممارسات، وبين الطبقات، والأجيال، والجهات... وأعادت تثبيت الحدود . فحين يهمّش الشباب في المشهد الإعلامي مثلا وتغيّب أصواتهم ونُصرّ على «حق» تمثيلهم وصناعة صورة سلبية عنهم ، يتحوّل العنف إلى وسيلة للتعبير عن ذواتهم المسحوقة وأداة لانتزاع الاعتراف.
وبدل إلقاء المسؤولية على طرف واحد : الساسة علينا أن نتدرّب على التحليل الشامل الذي يرى الأمور من مختلف الزوايا. فللأهل مسؤولية الاستقالة عن الاضطلاع بالدور التربوي ، وغرس المنظومة القيمية في الناشئة التي تحصنهم من الوقوع في فخ التطرف في كلّ صوره، وللمشرفين على التعليم نصيب من المسؤولية في استشراء علاقات مبنية على الاستغلال، وتدمير الطاقات الدفينة ... ولفئة من «رجال الدين» و«علماء الزيتونة» دور في ما يجري. فحين يصبح هؤلاء من الفئات المنتجة لخطاب الكراهية والتكفير فلا تسأل عن التفكك في النسيج الاجتماعي ، وللجهاز الأمني دوره ووووو...
علينا أن نعترف ولو لمرّة واحدة، بأنّنا لم نتعلّم حبّ الوطن حد الثمالة، ولم نتشبع بمنظومة قيمية تحمينا من التوحش، ولم نفقه معنى ثقافة المواطنة التشاركية المسؤولة، ولم نحكم فهم القانون ولا الحوكمة ولا المساءلة ولا المحاسبة ...فهل أضعنا فرصة إنجاح المسار؟