بركان في المملكة

في الثالث من ديسمبر الماضي تصدّى الأئمة في الهند بكلّ قوّة لمجموعة من الفتيات المحجبات اللاتي شاركن في حملة توعوية

بأداء رقصة تعود أصولها إلى الهندوس. وقد أثار هذا السلوك حفيظة «حراس الشريعة» وجعلهم يصدرون فتوى تبيح تأديب هؤلاء الفتيات بالاعتداء عليهن بدعوى خروجهن عن الأعراف والقيم الدينية والإسلام «الصحيح».

وفي 13 ديسمبر أصدرت المحكمة المصرية حكما بسجن الفنانة شيماء سنتين ودفع غرامة مالية بدعوى أن الكليب الذي أنتجته فيه دعوة صريحة إلى الخلاعة والانحلال الأخلاقي والفجور، والحال أنّ الفنانة اعتذرت للجماهير موضّحة أنّها ما كانت تتوقّع هذا التشدّد.

غير أنّ المملكة العربية السعودية البلد الذي أغدق أموالا طائلة على الدعوة الإسلامية داخل المملكة وخارجها وساعد على «وهبنة» عدّة بلدان غيّر مواقفه وتراجع عن سياسة منع غناء النساء في التلفزة والمسارح طيلة قرون وتأديب هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كل من ارتكب المعاصي بتكسير الآلات وتهشيم النوادي...

هكذا صدرت الأوامر العليّة في شهر ديسمبر باستقبال أولى الفنانات السافرات: اللبنانية هبة الطوجي، وفتح المسارح ودور السينما المغلقة طيلة نصف قرن. ولا غرابة في ذلك إذ أنّ عددا من الدعاة والأئمة أضفوا الشرعية المطلوبة على هذه الأشكال الإبداعية وأعادوا قراءة النصوص الدينية بحثا عن التبريرات والحجج الشرعية.

إن ما يسترعي الانتباه في هذه المواقف خروج السعودية من زمرة البلدان التي يدان فيها الفنّ ويحارب فيها أهله، وهو خروج معبّر عن مطلب شريحة شبابية من المجتمع السعودي كانت تضطر لمتابعة الأفلام والأغاني وغيرها من الأشكال الفنية المحظورة من خلال اعتماد المشاهدة الرقمية عبر نظام «نيتفليكس».

ليس يخفى أن هذا القرار كانت له انعكاسات اجتماعية إذ سرعان ما بدا الاستقطاب الحدي واضحا بين أنصار الانفتاح وأتباع المحافظة على خصوصية المملكة العربية السعودية موطن نزول الإسلام. وقد عرفت مواقع التواصل الاجتماعي ، وخاصة تويتر جدلا بين المؤيدين لسياسة الأمير محمد بن سلمان والرافضين لهذا التوجه الذي يسير بنسق سريع ويهدد بنسف ما كان يمثل الاستثناء السعودي ويعقد الصلة بين هذا البلد وعالم القداسة.

لئن اتخذت سياسة «الانفتاح» طابعا إصلاحيا وصبغة اقتصادية ترى في تنويع اقتصاد البلاد عاملا مهمّا خاصة وأنّ الاعتماد على مداخيل النفط ما عاد يؤتي أكله فإنّ الجدل كشف عن المأزق الديني. فقد رأى المبررون لهذه السياسية الانفتاحية أن محتوى المنتج الثقافي يجب أن يخضع للرقابة وفق متطلبات «أحكام الشريعة واعتبارات المملكة الأخلاقية» والضوابط الشرعية .ولكن هذا التبرير لم يقنع حراس الشريعة إذ رأوا في هذا التوجه «تشجيعا على المنكر وإشاعة للمعصية» وتيسيرا للاختلاط.

يقودنا التأمل في طبيعة الجدل المصاحب لهذه القرارات السياسية إلى تبيّن النتائج المترتبة عن هذه «الخيارات السياسية» التي لم تنبع من إرادة شعبية بل من إرادة سياسية فردية، وهو ما يجعلها مرتهنة بوجود صاحب القرار السياسي ومفتقرة إلى الشرعية الشعبية في سياق تاريخي أولى أهمية لإرادة الشعوب في تقرير مصيرها والتعبير عن رغبتها في الديمقراطية التشاركية. ولا يقتصر الأمر عند هذا الحد إذ كيف يمكن أن تفرض هذه السياسات دون تهيئة المجتمع وتمكينه من فرصة المشاركة في إبداء الرأي عبر النقاش العامّ ؟ثمّ أنّى للإصلاحات أن تظهر في لبوس اقتصادي،

والحال أنّها موصولة إلى الثقافة وإلى بنية ذهنية اعتادت التعامل مع أغلب أشكال الإبداع على أساس أنّها من رجس الشيطان؟

إنّ النسق السريع الذي تسير وفقه هذه التوجهات السياسية يبعث على القلق فما فرض بقوة الإرادة السياسية معرض للانهيار متى تغير الفاعل السياسي أضف إلى ذلك أنّ طابع هذه السياسات ينحو منحى الإجبار والإلزام ومن ثمة يتعارض مع مسلك الإصلاح الذي يندرج في بناء الديمقراطية التشاركية. وبناء على ذلك نذهب إلى أنّ هذه الإصلاحات لن تكتسب الديمومة ولن تتمكن من انتزاع الاعتراف المجتمعي لأنّها لم تنبع من إرادة جماعية بل من رؤية فردية كما أن هذه الاصلاحات أطاحت بعرش العلماء فباتوا موضوعا للتندر والسخرية ، وهو أمر سيخلق ثورة مضادة تروم استرجاع الامتيازات.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115