الغنيمة

أن يقترب منك البعض تحسّبا لمصلحة قد يجنيها من وراء ملازمتك فذاك أمر بات مألوفا...

وأن يعاملك البعض بلطف حتى يقضوا مآربهم ثمّ ينقضّوا عليك نهشا فذاك صار سلوكا معتادا يٌشرح في ضوء أزمة انهيار الضوابط والأخلاق. ولا عجب أن يحدث هذا... ففي عالم مسعور صارت الجموع تلهث من أجل تحقيق مصلحة أو كسب موقع بعد أن خذلتهم الإمكانيات وعزّت السبل وعسرت المسالك. والواقع أن المتأمل في المبرّرات والأسباب التي يسوقها

اللاهثون وراء الغنم يقف على حقيقة مفادها أنّنا إزاء ظاهرة تتطلّب التحليل والتفكيك وفق مقاربات متنوّعة كالتحليل النفسي، وعلم الاجتماع السلوكي وغيرها.

غير أنّ البحث عن «الغنيمة الباردة» متى تفشّى في عالم السياسة، وتحوّل إلى سلوك يمارسه عدد كبير من السياسيين فإنّه يصبح محبطا للآمال المعلقة على مسار الانتقال الديمقراطي ومثيرا للسخط الشعبي لاسيما وأنّ الجري وراء الغنيمة قد جعله بعض القياديين مبدأ وسياسة رسمية تُنتهج داخل الحزب. وهنا تكمن الخطورة فإذا كانت النخب لا تتصرف إلا وفق نزواتها

ومصالحها فلا تلم بقية فئات المجتمع.
«إِذا كانَ رَبُّ البَيتِ بِالدُفِّ مولِــعــاً
فَشيمَةُ أَهلِ البَيتِ كُلِهِمِ الرَقصُ»

لقد نجم عن تحويل الغنيمة إلى قاعدة حكمت منظومة توزيع المصالح تمحور النقاش السياسي في تونس حول سبل نيل «السلطة» ووسائل البقاء في مواقع القرار وطرق إزاحة الآخر والقضاء عليه. فبات أغلب قياديي النداء بأجنحته المتعددة يغنمون، وصارت فئة من قياديي النهضة التي ارتأت أن لا تظهر في الصورة ، تغتنم الفرص لتغنم وتستحوذ على المناصب وكذا الأمر بالنسبة إلى فئة من النقابيين الذين تأثروا بالمناخ العام وأغرتهم لعبة السيطرة والنفوذ.

ويمكن القول إنّ الأمثلة العديدة التي جمعناها خلال هذه السنوات الأخيرة عن سلوك عدد من المتطفلين على السياسة والخطابات المبتذلة التي استمعنا إليها والتبريرات المتهافتة التي تندّرنا بها قد كوّنت أرشيفا مخزيا لا نريد أن تحفظه الذاكرة. ونقدّر أن لا مبرّر لمثل هذا السقوط سوى ضعف المؤهلات وهشاشة البنية النفسية وغياب الثقافة السياسية وعدم الرغبة في بناء القدرات وتطويرها. ولأنّ أشباه السياسيين لا يملكون العدّة المعرفية ولا المهارات فإنّ هؤلاء يعتبرون الغنيمة محفّزا نفسيا يدغدغون من خلاله أصحاب النفوس الضعيفة طالبين منهم الدعم والمساندة والولاء.

ولا يتوقف تأصيل الممارسة عند الغنيمة بل صارت القبيلة/العشيرة عاملا محركا لإدارة الحكم. فبات تمكين الأقارب وأبناء العمومة والأصهار والأبناء من نيل المواقع والمناصب والمكاسب من الممارسات المألوفة. أمّا العقيدة فقد غدت لدى بعضهم وسيلة للوصول إلى الغايات السياسية الشخصية والحزبية والفئوية الضيقة. وهنا حضر الثالوث المعروف المحرّك للعقل: الغنيمة والقبيلة والعقيدة.

ولا يسع المرء عندما يمحّص النظر في ما آل إليه المشهد السياسي من رداءة إلاّ أن يتعجّب من نهم هؤلاء الذين حركتهم المصالح فهبّوا من مراقدهم يركضون ولا يكتفون بما حصّلوه من مغانم... وليس بوسع المرء إلا أن يتساءل لماذا اختزل نقاش التونسيين حول السياسية في ‹صراع القياديين من أجل نيل السلطة›؟ لِمَ عسر تحويل النقاش إلى نقاش حول تقويم أداء

الفاعلين السياسيين أو جدل حول المشاريع والبرامج والتصورات؟ لماذا لم تستطع مختلف قوى المجتمع المدني أن تضغط من أجل تصحيح المسار بعد أن انفلت عقال القوم وصار اللهث وراء السلطة من ثوابت وجود السياسي وديمومته؟ وما مسؤولية وسائل الإعلام في الانزياح عن الحد الأدنى من الممارسة السياسية المسؤولة ؟

هل هناك أحد بعد كلّ هذه الممارسات من مازال يؤمن بأنّ هذه الزمرة من السياسيين تسعى بالفعل إلى إقامة دولة مدنية قادرة على تحقيق العدالة الاجتماعية تُحتَرَم فيها كرامة المواطنين وتصان فيها المكاسب والثروات ؟ وهل هناك أحد يحلم بانتخابات شفافة ونزيهة ؟

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115