تأزّم وضع «حرّاس الشريعة» والمؤسسة الدينيّة

تتعالى الأصوات اليوم مطالبة بتدخّل سريع من المؤسسة الدينيّة الرسميّة وكأنّها تملك وسائل الإقناع والتأثير في «الجماعات الجهادية»،

ولها القدرة على ابتكار الحلول. فيطالب البعض الأزهر بإصدار بيان تكفيري بشأن «الجهاديين» ويحثّه البعض الآخر على الاضطلاع بدور رئيس في مكافحة التطرّف العنيف للحدّ من العمليات التفجيرية وتنقية الدين من الشوائب وتخليص العباد من خطاب لا يمت إلى القيم الدينية بصلة. وفي المقابل تتهم فئة أخرى الأزهر وخرّيجيه من أساتذة الشريعة والدعاة بنشر خطاب يشرّع ممارسة التمييز والعنف والتعصّب ويشجّع على التباغض وإدانة الآخر المختلف عقديا ومذهبيا وفكريا... ولا يتوانى البعض عن كشف المستور فيعرض في مختلف وسائل الإعلام المناهج التعليمية والنصوص التي تتضمّن احتقار الآخر وكرهه وممارسة كلّ أشكال العنف تجاهه.

أمّا في المملكة العربية السعودية فإنّ حال المشايخ والعلماء قد انقلب رأسا على عقب هؤلاء الذين كانوا يستمتعون بسلطة تجعلهم يحرّمون ويمنعون ويرفضون ويرفعون قضايا الحسبة ضدّ الناس ويبطشون بالرقاب صاروا بقدرة قادر يتحدثون عن الاختلاط في عهد الرسول وعن جواز قيادة المرأة للسيارة وعن أهمية الفنّ... وسبحان مغير القلوب والعقول...
لا مجال للشكّ في أنّ حرّاس الشريعة صاروا في وضع حرج لا يحسدون عليه بعد أن فقدوا مصداقيتهم وشرعيتهم فما باتت صورتهم بمثل تلك «القدسية» التي اضفيت عليهم بل إنّهم صاروا مادة للتندّر والسخرية وموضوعا للنقاش بعد أن صدم الرأي العامّ من هذا التحوّل المفاجئ لشيوخ كانوا يغلقون باب النقاش ويتمسّكون بمواقفهم. وها هم الآن يخضعون للفرز والتصنيف : شيخ يعوّل عليه وشيخ لا مكان له في النظام الجديد ، فلا غرابة والحال هذه أن تعمد السلطة السعودية إلى حبس البعض ونفي البعض الآخر ومنع عدة أسماء من إصدار الفتاوى والاشتغال بالدعوى وأن تلجأ مصر إلى منع قائمة من العلماء من الظهور في الإعلام وإلقاء الدروس في المساجد...

وبالرغم من هذا السياق الإقليمي الجديد الذي خلخل المؤسسات الدينية وأربك تمثّل الناس لـ/ العالم /الداعية /الإمام/... فإنّ المكتوين بنار الإرهاب هنا وهناك لا يزالون يعتبرون بأنّ الحلّ هو بيد وزارة الشؤون الدينية ورجال الدين الذين لابد بأن ينخرطوا في مكافحة الإرهاب والوقاية من التطرف. وهذا الموقف الذي يبالغ في تقدير الدور الذي يمكن أن تضطلع به المؤسسات الدينية الرسمية والعاملين تحت إمرتها يتعالى عن الواقع ويتعامى عن مجموعة من الحقائق. فهل أن الذين انتموا إلى الجماعات الجهادية أو مارسوا العنف أو الجريمة في حق الإنسانية قد تأثروا بالفعل بالخطاب المسجدي؟ وهل أنّ الخطاب الديني قادر بالفعل على كبح جماح النفس الأمارة بالسوء والحال أن عددا من المشرفين على المجال الديني قد انجروا وراء الصراع الأيديولوجي وأغرتهم فتنة السلطة والهيمنة على العقول وضرب الوصاية على الآخرين فانفلت عقالهم وما عادوا يفقهون؟ وكيف يمكن للمؤسسة الرسمية أن تواجه المادة المبثوثة في الأنترنت من نصوص دينية فيها الغث والسمين وبأية عدّة منهجية ؟ وهل نجحت الدورات التكوينية للمشرفين على الشأن الديني في إصلاح خطاب ظلّ موصولا إلى زمن السلف أو ما يتمثل على أنّه زمن الراشدين؟

إنّ القضية لم تعد في تقديرنا، بيد المؤسسة الرسمية التي ظلت طيلة عقود تدعي أنها حاملة المشروع الإصلاحي، والمروّجة لـ «الإسلام المعتدل»، وقيم التسامح والمحبة و... بل هي في تجديد البنية العلائقية بين المواطنين المسؤولين عن مصيرهم والمجتمع المدني والدولة والمشرفين على إدارة الشأن الديني عموما. وطالما أنّنا لم نفكّر في إرساء عقد اجتماعي جديد على قاعدة المواطنة التشاركية والفاعلة التي تتطلب من المواطن/ة أن يراقب أداء المشتغلين بالحقل الديني، ويرصد التهاون والانزياح عن الرصيد القيمي المشترك في ظل الدولة المدنية، ويفضح الخطابات التحريضية ويمارس الضغط على الذين يعرضون اللحمة الاجتماعية للتصدع فإنّ حالة الانفلات في المساجد مستمرة، وإنتاج الخطابات التحريضية وادعاء المعرفة والنطق نيابة عن الله والتمسك بالنزعة الوثوقية متواصل لأنّ معظمنا لم يفقه بعد التحولات الجديدة والديناميكية التي تخترق كلّ المجالات.

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115