هذا الجدل كان منتظرا وكان منتظرا كذلك أن يكون أكثر حدة في ما يسمى بالأوساط الدينية لا سيما في أوساط الإسلام السياسي وإن كانت المبادرة الرئاسية تمثل امتحانا حقيقيا لجدية الحركة الإسلامية في انخراطها في الحداثة التونسية..
كنا ننتظر هذا الجدل الديني وكنا ننتظره كذلك بهذا المستوى لأن ثقافتنا الدينية في بعديها الشعبي والمؤسسي قد تكلست كثيرا وما يصح على بلادنا يصح على كل البلاد العربية وخاصة في فضائها السني..بل إن بلادنا أفضل حالا بكثير لأن نخبتنا الفكرية والحقوقية والسياسية قد تجاوزت معيقات النخب العربية بسنوات ضوئية ..
يعتقد الكثير من المسلمين من عامة القوم وخاصتهم – حسب توصيف القدامى – بأن المساواة في الميراث بين الذكر والأنثى مخالفة لنص قراني صريح ورد بهذه الصيغة في سورة النساء «يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين» وأن ما هو صريح وواضح في النص القرآني لا يجوز للبشر تبديله أو تغييره أو عدم العمل به ..
المسألة لا تتعلق إذن بالمساواة في الميراث من عدمها بل بضرورة تطبيق النصوص القرآنية ذات المضمون التشريعي اي ما يسمى عادة بتطبيق الشريعة..ولا يقصد بالشريعة هنا معناها القرآني الأصلي (النهج ،السنة) بل بجملة الأحكام الواردة في مجال المعاملات والتي نجدها في المنظومة الإسلامية التقليدية في باب الفقه..ويميز المعاصرون في المدونة الفقهية الموروثة بين ما هو ثابت دائم لأن أحكامه وردت في القرآن وصحيح السنة أو انبنت مباشرة عليها ، والأحكام القابلة للتطور لأنها استنتاجات الفقهاء على مرّ العصور..
وهنا تبدأ مأساة الفكر الديني الإسلامي المعاصر..فهو ينظر للمدونة الفقهية بصفة لا تاريخية ،أي لا يدرك شروط وحدود إنتاج هذه المدونة ولا طبيعة المناخ الفكري الذي حفّ بها ..
على عكس ما يسمى بعلماء الدين عندنا اليوم، علماء الإسلام منذ بدايات القرن الثاني للهجرة كانوا يدركون ضرورة التوسط في العلاقة مع النص المقدس بترسانة مفهومية كاملة لفهم العقيدة أولا في إطار ما كان يسمى بعلم الكلام وللقواعد التي يمكن بها استنباط الأحكام الشرعية في إطار أصول الفقه..أي القواعد الفكرية العامة التي نتمكن من خلالها من فهم النصوص والتأليف بينها سواء تعلق الأمر بالعقائد أو تعلق بجانب المعاملات بين البشر..
يعني أن الذهاب مباشرة إلى النص القرآني دون هذه الآلة النظرية للفهم والتفهم لم يكن يقبل بها القدامى لأن القرآن كما قال الإمام علي كتاب ينطق به البشر ولان نصوصه تتراوح بين المحكم والمتشابه والمطلق والمقيد والناسخ والمنسوخ والعام والخاص والحقيقة والمجاز الخ..
فعلماء أصول الدين (علم الكلام) اختلفوا في مسائل جوهرية كعلاقة العقل بالنقل ومن له أولوية الفهم والإدراك وكيف نوفق بينهما إن تعارضا؟ هل نلغي العقل أم نؤول النقل وفق مقتضى العقل ؟
تلك هي نقاشات القرن الثاني والثالث والرابع للهجرة، ولقد هيمن التيار العقلاني (المعتزلة) على النخب الدينية وكان على امتداد قرن العقيدة الرسمية للدولة العباسية ..
أما عند الفقهاء فقد تنوعت الاجتهادات بتنوع الاختيارات في مجال أصول الفقه فاختار بعضهم القياس وبعضهم المصالح المرسلة وبوبوا النصوص القرآنية والأحاديث النبوية وفق قطعية أو ظنية ورودها وكذلك دلالتها فكانت نصوص قطعية الورود وقطعية الدلالة وأخرى ظنية الورود وظنية الدلالة وبينهما من خلط الأمرين..
ووضع جلّ الأصوليين الإجماع قبل النص لوجود الخلاف في فهم النصوص الدينية .. والمهم في كل هذا أن علماء الكلام وعلماء أصول الفقه قد استفادوا – وان بنسب مختلفة – من معارف عصرهم اللغوية والفلسفية والمنطقية وحتى الرياضية والعلمية ..
فالقواعد العامة التي وضعوها لفهم النصوص لم تخرج عن دائرة المفكر فيه آنذاك على حدّ عبارة الراحل المفكر الجزائري الكبير محمد أركون..والمبادئ العامة التي وضعوها ليست سرمدية بل متأثرة بمكتسبات المعارف لزمنهم ومثال ذلك القياس في الفقه إذ هو استعارة مباشرة من علم المنطق اليوناني ..
وما قد يخفى على مسلم العصر الحديث هو أن مدارس فكرية عقائدية أو فقهية قد اعتبرت أن العقل سابق ومهيمن على النقل لا فقط في العقائد (المعتزلة) بل وكذلك في أصول الفقه ..
ما نود الإشارة إليه هو أن عالم حنبلي من القرن الثامن للهجرة وفي معرض شرحه للحديث النبوي «لا ضرر ولا ضرار» قد أسس لمدرسة فريدة في أصول الفقه لم يسبقه إليها احد تقوم فلسفتها على أولوية النص والإجماع في المسائل التعبدية وأولوية المصلحة عليهما في مجال المعاملات وأنه لو تعارضت المصلحة مع النص والإجماع وقع تقديم المصلحة وتأويل النص على مقتضاها..
يقول نجم الدين الطوفي مفسرا منهجه : «واعلم أن هذه الطريقة التي قررناها مستفيدين بها من الحديث المذكور ليست هي القول بالمصالح المرسلة على ما ذهب إليه مالك بل هي ابلغ من ذلك وهي التعويل على النصوص والإجماع في العبادات والمقدرات وعلى اعتبار المصالح في المعاملات وباقي المعاملات «ويوضح الطوفي في نهاية نصه(48 صفحة) الطريقة التي نصل بها إلى تحقيق المصلحة فيقول : «مصلحة سياسة المكلفين في حقوقهم فهي معلومة لهم بحكم العادة والعقل».
إلى هذه الحدود وصل اجتهاد القدامى ونحن في إطار مدرسة فقهية عرفت بتشددها،المدرسة الحنبلية،ففي نفس المنظومة الكلاسيكية كان بالإمكان دفع مجال الاجتهاد بعيدا وأولوية المصلحة على النص لا تلغي النص في هذه المنظومة بل تفسره وتؤوله على وجه يضمن تحقيق المصلحة..
نحن أمام تمييز واضح وجلي بين مجال ديني اعتقادي تعبدي ومجال اجتماعي سياسي بعباراتنا المعاصرة ،في الأول تكون فيه السلطة للنص وفق شروط فهمه والثاني المرجع فيه هو رعاية مصالح الناس بغض النظر عن ظاهر النص ومنطوقه ..
ولكن المؤسسة الدينية في العالم العربي وخاصة مع هيمنة السلفية عليها منذ الصدمة البترولية في أواسط السبعينات لم تستطع حتى مواصلة هذا النهج التحرري في تراثنا القديم بل عطلت كل فهم وتفهم تاريخي لشروط إمكان المنظومة الفقهية الكلاسيكية فما بالك بالتفكير في تجاوزها وإعادة بنائها من جديد..
فالسلفية تنفي التاريخ وتعتبر أن الأفضل قد حصل فعلا وما علينا إلا محاكاته إلى الأبد..
فإلغاء التاريخ كتراكم للفعل البشري وكمفسر لعناصر بروز وأفول الظواهر والاستعاضة عنه بتاريخ مقدس محنط لا عمل للزمن فيه ولا انكسارات ولا تراكمات ولا تجاوزات هو الذي حنّط فهم النصوص الدينية في الحضارة الإسلامية لا العكس أي أن هذا التحنيط لم يكن نتيجة وجود هذه النصوص بل قراءتها الحرفية التراجعية التي هيمنت والتي تهيمن اليوم على الإسلام السني العربي ..
إذ يكفي أن نعلم أن جل الحدود الجسدية الواردة في القرآن الكريم كانت سائدة في العصر الجاهلي وفي المجتمعات المحيطة بالحجاز ،فقطع يد السارق ورجم الزاني والجلد هي عقوبات ذلك العصر ولم يختص بها القرآن ثم إن جلّ آيات الأحكام الواردة في القران المدني قد خضعت لجدلية الناسخ والمنسوخ أي أنها تطورت وتدرجت على امتداد الفترة النبوية في المدينة،فكيف نتصور أن ما تطور على امتداد عقد واحد من الزمن سيقف على حالته تلك ؟ اللهم إلا إذا اعتبرنا أن المجتمع الإنساني الأفضل هو المجتمع القبلي العربي في القرن السادس ..ثم نحن نعلم اجتهاد الخلفاء الأوائل في تطبيق بعض أحكام خالفوا بها ظاهر النص القرآني فهم لم يفعلوا ذلك تجرؤا عليه بل تحقيقا لمصلحة أهم تناقضت في تلك الحالة مع ظاهر النص ..
قد نجد «عذرا» للتشدد السلفي الحرفي الذي يتشبث بظاهر النصوص كلها ولكن كيف نفهم موقف المؤسسات الدينية الرسمية في المغرب والمشرق والحال أنها تعايشت على امتداد قرنين من الزمن مع تعطيل أحكام قرآنية كثيرة وخاصة منها العقوبات الجسدية..فلماذا تتحمس في آيات المواريث وتتجاهل آيات قطع اليد والجلد وغيرها ؟..
إنها سكيزوفرينيا فكرية غريبة ..
وبطبيعة الحال لا يمكن ان نطلب من هذه المؤسسات الدينية إعادة إنتاج منظومات تفهمية للنص الديني تستفيد من علوم الإنسان والمجتمع الحديثة فهي ترفض حتى مجرد تدريسها فمن باب أولى وأحرى استيعابها وتوظيفها في قراءة تأويلية جديدة على غرار ما حصل ويحصل في جلّ المدارس المسيحية..
الفصل بين الديني والسياسي وبالتالي بين الجانب التشريعي المتروك تقديره لمصالح الناس والجانب الروحي التعبدي ليس استنقاصا من مجالات تدخل الإسلام في الحياة العامة بل تحريرا له من أدران التاريخ وتراكماته السلبية ..
وحده الإسلام الروحاني الصوفي يمكنه الانغراس في الحداثة وإضفاء المعنى عليها أمّا إسلام فقهاء الحشوية المتكلس والتراجعي فهو يعيد التاريخ في شكل مأساة وأحيانا في شكل مهزلة ..
----------
كتاب التعيين في شرح الأربعين لنجم الدين الطوفي تحقيق أحمد حاج محمد عثمان - المكتبة المكية ، السعودية 1998 - الصفحات من 243 إلى 280.