من الخلفيات الدينية إلى المطامع الإستراتيجية: الصراع السني الشيعي في المشرق العربي

يعود الصراع السني الشيعي في العالم الإسلامي إلى العقود الأولى لظهور الإسلام ذاته ويمكن أن نعتبر أن ما يسمى في تاريخنا بالفتنة الكبرى أي تلك الحروب الداخلية التي قسمت الصحابة بين ما كان

يسمى حينها بشيعة علي (أي أتباع الخليفة الرابع الراشد )وشيعة معاوية (مؤسس الدولة الأموية) ..

منذ تلك الفترة المبكرة والعالم الإسلامي يعيش على وقع هذا الصراع المذهبي ..صراع فاتر أحيانا وعنيف في فترات كثيرة خاصة عندما تنتصر بعض الدول لأحد المذهبين بصفة واضحة فيختلط الديني بالسياسي والدفاع عن العقائد بتحصيل المكاسب الإستراتيجية والتجارية ..

في العصور الحديثة أخذ هذا الصراع منحى جديدا مع ظهور الحركة الوهابية بصحراء نجد في منتصف القرن الثامن عشر..فالعداء السلفي الوهابي للشيعة كان راديكاليا إذ التشيع عند ما يسمى بشيوخ نجد( محمد بن عبد الوهاب مؤسس الوهابية وأجيال مشائخ المذهب بعده) بدين جديد لا علاقة له بالإسلام..

والشيعة يسمون بالرافضة عند التيارات السلفية لأنهم رفضوا إمامة الشيخين أي أبي بكر وعمر بن الخطاب ورفضوا السنة النبوية بإطلاق وبالنسبة لهم المتشيع عن علم ودراية هو كافر بإطلاق أي خارج عن الملّة لأنه ينكر أشياء كثيرة في الاعتقاد والسلوك هي معلومة من الدين بالضرورة.

وقد كتب مؤسس الدعوة الوهابية رسالة قصيرة اسماها « رسالة في الردّ على الرافضة»..ومنذ تأسيس الدولة السعودية الأولى كانت دولة سلفية معادية للشيعة ومستهدفة لهم وقد هاجمت جيوش وهابية انطلقت من نجد سنة 1802 (الدولة السعودية الأولى ) العتبات الشيعية المقدسة بكربلاء في العراق وكان ذلك بمناسبة عيد ديني شيعي وقد قتلت الجيوش الوهابية في هذه الغارة بعض الآلاف من شيعة العراق وعليه فالدولة السعودية منذ نشأتها الأولى (1774م) هي دولة سنية تبنت السلفية كما أعاد صياغتها محمد بن عبد الوهاب كعقيدة رسمية للدولة ..ومن الخصوم الأساسيين لهذه الدولة كل المذاهب الإسلامية الخارجة عن «الجادة» السلفية بما في ذلك داخل الفضاء السني ذاته كالأشعرية مثلا (وهي العقيدة الغالبة عند الإسلام السني العربي) وقد كان الشيعة هم نموذج العدو الداخلي/ الخارجي الأبرز في تحديد الهوية السياسية والديبلوماسية للدولة الوهابية ..

الشيعة بدورهم كانت لهم دول كثيرة على امتداد التاريخ الإسلامي كدولة الأدارسة بالمغرب الأقصى والدولة البويهية وخاصة الإمبراطورية الفاطمية ولكن في العصور الوسيطة والحديثة كانت إيران هي الدولة الشيعية الأم وخاصة منذ تبني الصفويين في بداية القرن السادس عشر المذهب الاثني عشري (المذهب الغالب على الشيعة اليوم) بدل المذهب السني..وقد لعب الدعاة الشيعة الإيرانيون دورا كبيرا في تحويل جزء من سكان العراق في القرن التاسع عشر من المذهب السني إلى التشيع..

ولكن العداوة بين الدولتين السعودية والإيرانية لم تكن بالحدّة التي نراها اليوم وقد يعود ذلك إلى كون التشيع لم يكن سياسة دولة توسعية في إيران إلى حدود قيام الثورة الإسلامية مع الخميني..حينها أصبحت لدينا دولة تأخذ من التشيع المؤدلج عبرنظرية ولاية الفقيه مذهبا رسميا للدولة ومذهبا للتبشير والتصدير رغم الحذر الإيراني الكبير في عدم استعمال الشعارات الشيعية الواضحة خاصة عندما يخاطبون بقية المسلمين السنة في العالم..ولكن من حيث أرادت أم لم ترد فلقد كان من نتائج قيام الثورة الإسلامية في إيران عنصران اثنان:

1 - تحويل المذهب الشيعي إلى إيديولوجيا سياسية مناضلة في إيران ساهم إلى حدّ كبير في تسييس كل الأقليات الشيعية في المشرق العربي ولعلّ المثال الأبرز هو حزب الله اللبناني ..فالتسيس كان مع تأسيس حركة أمل سنة 1974 بقيادة الإمام موسى الصدر ثم كان التسيس النهائي مع تأسيس حزب الله سنة 1982 من قبل محمد حسين فضل احد ابرز القيادات اللبنانية على نهج «الإمام» أي الإمام الخميني ..

نفس الأمر حصل في العراق وان بدرجة اقل عمقا وظهورا نظرا لسيطرة نظام صدام حسين ولاندلاع الحرب العراقية الإيرانية ..

ونفس الأمر قد حصل بنسب متفاوتة مع شيعة البحرين (وهم الأغلبية هنالك) وكذلك مع الأقلية الشيعية في المملكة السعودية ..وقد تكون الأقلية الشيعية الكويتية هي الأقل انخراطا في مسارات التسيس هذه ربّما لأنها الأكثر اندماجا في مجتمعها الأصلي ..

ولعل التسيس الأغرب، إلى حدّ ما ، هو ما حصل مع الشيعة الزيدية في اليمن لأن هذه الفرقة كانت الأقل تمذهبا بين فرق الشيعة وهي قريبة جدّا في تصوراتها العامة إلى ما نسميه بأهل السنة ولكن انتصار الثورة الإسلامية في إيران دفع بالزيدية الى الاقتراب كثيرا من إيران فأسس بدر الدين الحوثي سنة 1994 حركة سياسية مسلحة « أنصار الله» وهي تعرف بالحركة الحوثية نسبة إليه وهي التي تقود اليوم الحرب ضدّ التحالف السعودي في اليمن ..

بروز إيران الثورة الإسلامية أحيى من جديد النزعة المنافحة للوهابية السعودية وهو أحد العناصر التي تفسر الانخراط الكلي للمملكة السعودية في الحرب العراقية الإيرانية سعيا منها لإنهاك هذا الخطر الصاعد في المهد..ولكن الخطر الإيراني أصبح أكثر ظهورا بعد احتلال أمريكا للعراق سنة 2003

فمن «حيل» التاريخ كما يقال فقد دعمت أمريكا وحلفاؤها من حيث أرادوا أم لا نفوذ إيران في العراق بعد الاحتلال ..كما دفع الوجود الأمريكي في بلاد الرافدين النظام السوري المعتمد على الأقلية العلوية (إحدى الفرق المنشقة للشيعة) إلى توطيد علاقاته الإستراتيجية مع إيران وهكذا أضحى لإيران منذ أواسط سنوات الألفين ما يسمى بالهلال الشيعي الذي ينطلق من لبنان عبر حزب الله فسوريا والعراق ثم يمر إلى البحرين واليمن والمناطق الشرقية بالسعودية ليصل في النهاية إلى غزة مع حركة حماس رغم عدم انتماء هذه الأخيرة للمذهب الشيعي..

ولقد تمكنت إيران من تحقيق حضور متعاظم في الشرق الأوسط عبر انتصار أذرعتها وحلفائها وخاصة حزب الله وحماس وكذلك صعود التيارات الشيعية الموالية لها للحكم في العراق..

وهذا ما أثار حفيظة السعودية التي سعت للحد من النفوذ الإيراني في العراق الواقع على حدودها الشمالية بدعم ما يسمى بالحراك السني واحتجاج القبائل السنية على النزعة الطائفية الواضحة في حكومة المالكي ...

وتبقى المواجهة على التراب السوري هي الأهم ..وقد اعتقدت السعودية وحلفاؤها الخليجيون أنه بالإمكان كسر الهلال الشيعي بإسقاط نظام الأسد الذي يمثل همزة وصل أساسية بين إيران من جهة وحزب الله وحركة حماس من جهة أخرى..

ولكن تمددت الحرب في سوريا وانقلبت موازين القوى بفضل التدخل الحاسم لميليشيات حزب الله وللدعم الإيراني وخاصة التدخل العسكري الروسي..

لقد كسبت المملكة صراعها ضد إيران عندما قسمت ظهر الحراك الشعبي الشيعي بمملكة البحرين سنة 2011 ولكن في المقابل شنت حركة الحوثي هجومات عسكرية عنيفة سمحت لها بالسيطرة على الحكم في اليمن سنة 2015 فتدخلت هذه المرة المملكة السعودية بكل ثقلها العسكري لكي لا تسمح لوجود معاد لها على حدودها الجنوبية ..

وهكذا تبدو القضية القطرية كحلقة جزئية في هذا الصراع متعدد الأبعاد بين الدولة الوهابية والجمهورية الاسلامية الشيعية ..

صراع تتداخل فيه مصالح الدول الكبرى ولاشك والتموقعات الجغراسياسية لكلا الطرفين ..ولكنه صراع ضارب في الزمن وفي المخيال السياسي والعقائدي للبلدين وساحاته المتحركة هي الطوائف الشيعية أو السنية المتناثرة في الشرق الأوسط العربي..

صراع يشق التاريخ ويتناغم مع اكراهات الحاضر ..صراع انتقل الآن إلى البيت الخليجي الذي تريده السعودية منسجما تمام الانسجام في حربها ضد ما تعتبره الخطر الأكبر المهدد لها : «الإرهاب الشيعي»..

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115