ولامتحان الباكالوريا مكانة مركزية عند العائلة التونسية خاصة منذ أن تبنت تونس نظام التوجيه الحالي سنة 1976..فالعبرة منذ تلك الفترة وبصفة متعاظمة لم تعد فقط في النجاح في الباكالوريا بل في كيفية النجاح فالشعب «النبيلة»، وهي ديدن العائلة التونسية، لا تبتسم إلاّ لقلة قليلة جدّا..فالنجاح في الباكالوريا وحتى الحصول على شهادة في الدراسات الجامعية لم يعد مؤهلا لمدخل محترم في الحياة العملية إلا متى أمكن الجمع بين التفوق والشعبة النبيلة في نفس الوقت أما لو كان الوضع على غير ذلك فالمحدد في المسار المهني يصبح الوجاهة الاجتماعية وأهمية العلاقات التي تتوفر عليها العائلة المعنية ..
بدا يوم أمس أكثر من 130.000 تلميذة وتلميذ امتحانات الباكالوريا في قطيعة نسبية مع ما تعود عليه المجتازون لهذا الامتحان منذ 15 سنة أي احتساب %25 (ثم %20) من المعدل السنوي للتلميذ إذا كان أفضل من معدله في الباكالوريا..
والهدف كما هو معلن يتمثل في تحسين مستوى المرتقين إلى مؤسسات التعليم العالي .. إذ المتوقع أن هذا الإجراء الجديد سيقلص بحوالي عشر نقاط من نسبة الناجحين في الباكالوريا (حوالي 12.000 تلميذ)..ولكن لو أردنا «تحسين» مدخلات التعليم العالي لكان فرض معدل أدنى مرتفع (كـ 12 من أصل 20) للالتحاق بالجامعة أبلغ ..
ما نخشاه هو الاعتقاد بأن نظاما أكثر انتقائية في مستوى الباكالوريا هو البلسم الذي سيحل مشكلة تردي مستوى التعليم العالي ..فالإشكال الحقيقي والذي نريد أن نتغاضى عنه هو كيف نفسر بعد أكثر من 60 سنة عن استقلال البلاد وعن تعصير التعليم وتعميمه ألاّ يتجاوز عدد المتفوقين فعليا في امتحان الباكالوريا بعض المئات القليلة على أقصى تقدير أي أقل من %0.5 ويكون عدد الممتازين في حدود %1 أو %2 لا غير وأن تكون نسبة أصحاب المستوى المقبول دون %10 من مجموع المترشحين؟!..
هذه هي الأسئلة الفعلية التي ينبغي أن نبدأ في التفكير فيها ثم التخطيط لإيجاد الاجابات الجدية عنها..ولا يذهب إلى ذهنكم بأن النسب التي أشرنا إليها متشائمة بل هي دون الواقع الحقيقي إذ هي إسقاطات متفائلة لأرقام أكثر كارثية نجدها في أهم التقييمات العالمية للمنظومة التربوية التونسية..
يمكن أن ندعّي الإصلاح الذي نريد وان نضع له ما شئنا من لجان ومن خبراء وان نؤلف مجلدات ضخمة في التوصيف والتشخيص والبرامج الجديدة ..السؤال الأصلي هو التالي :
لماذا تفشل منظومتنا التربوية منذ السنة الأولى من التعليم الابتدائي في جعل غالبية أبنائنا متفوقين في المكتسبات الأساسية للمدرسة أي الرياضيات والعلوم والقراءة؟ ! فهل كتب علينا ألاّ نسمح بالتفوق إلا لما دون %1 من جيل بأكمله في حين تتمكن شعوب في العالم لا تفوقنا إمكانيات ، كالفيتنام مثلا، أن ترفع هذه النسبة أفضل منا بعشرين مرة؟ !
نريد ألا نمرر إلى التعليم العالي التلاميذ ضعيفي المستوى ..جميل..ولكن أين نضع معيار الضعف ؟ فقط في الحصول على المعدل في امتحان الباكالوريا ؟ ! ألا نعلم سلفا بأن أكثر من ثلثي هؤلاء مستواهم ضعيف وانه لا يمكنهم تدارك ذلك في التعليم العالي ممّا سيؤثر بصفة سلبية على تشغيليتهم ..
ثم إن ننسى فلا ننسى بأن السلط العمومية مسؤولة عن كل بنات وأبناء تونس ، لا فقط المتألقين منهم أو الناجحين في الامتحانات الوطنية.. هي مسؤولة أيضا عن كل بناتنا وأبنائنا المتواضعي المستوى العلمي وكذلك أولئك الذين ينقطعون عن التعليم ..
ينبغي أن نعلم أنه عندما يتقدم حوالي 130.000 تلميذ لاجتياز امتحان الباكالوريا فإن هنالك قرابة 110.000 ينقطعون سنويا عن المدرسة بمعدل 10.000 في الابتدائي و50.000 في الإعدادي و50.000 في الثانوي ..قيل لنا في عهد حكومة الصيد أن الدولة ستتولى توجيه كل المنقطعين عن التعليم إلى التكوين المهني .. وأعيد نفس هذا الكلام في حكومة يوسف الشاهد..ولكن هل للدولة أكثر من مائة ألف مقعد لهؤلاء ؟ ثم ماذا نريد في بلادنا : أطفال يغادرون المدرسة وأحيانا من السنة الأولى ابتدائي (حوالي 1700 تلميذ كانوا في هذه الحالة في السنة الفارطة ) أم إيصال أعلى نسبة ممكنة من جيل ما إلى مستويات تعلم وتكوين مرتفعة ؟ !
اليوم في تونس شاب على اثنين يخرج من المدرسة دون الحصول على الباكالوريا ..في بعض الدول تنزل هذه النسبة دون %10..
بالطبع في هذه الدول تم إرساء الباكالوريا المهنية منذ مدة طويلة .. وهي باكالوريا تؤهل لجملة من الاختصاصات الجامعية في مختلف التكنولوجيات والتقنيات ..
ما نخشاه في تونس هو إقدامنا على ما نعتقده إصلاحات هامة(كالبرامج ونظم الامتحانات والزمن المدرسي ..) ونترك الأساسي جانبا : خلق شروط التفوق المدرسي لكل بناتنا وأبنائنا ..
مشروع كهذا يستدعي عقدا من الزمن على الأقل لكي نبدأ في تغيير جدي لهذه المعادلة المدمرة ..وهو يقتضي أن نخرج جميعا (وزارة ومربين وأولياء..) من دائرة رفاهنا وممّا اعتدنا عليه طيلة العقود الماضية ..
ولكن دون هذا لا نهضة لتونس لا اليوم وخاصة لا غدا !!