في الأبعاد الإستراتيجية للصراع القطري السعودي

لقد شهدت الأزمة الخليجية يوم أمس منعرجا غير مرتقب: قطع نهائي وكلي وشامل للعلاقات الديبلوماسية بين السعودية ومصر والإمارات والبحرين من جهة (قبل التحاق اليمن وجزر المالديف وحكومة طبرق بليبيا) ودولة قطر من جهة أخرى بما فهم وكأنه إعلان حرب شاملة

على هذه الإمارة الصغيرة التي شغلت الناس وقسمتهم منذ عقدين من الزمن ..

الصراع السعودي القطري ليس وليد اليوم وتعود بواكيره الأولى إلى يوم 27 جوان 1995 عندما انقلب الوزير الأول حمد بن خليفة آل ثاني على والده أمير قطر وسعى منذ الأشهر الأولى لحكمه للخروج من تحت وصاية الأخ الأكبر في الخليج : المملكة العربية السعودية .

من الناحية الجغراسياسية قطر لا تزن شيئا أو تكاد أمام «الأخ الأكبر».. فالمملكة الوهابية أكبر من قطر ، جغرافيا ، بحوالي مائتي مرة (11.586 كلم2 لقطر مقابل أكثر من مليوني كم2 للسعودية ) وهي تكاد تكون محاطة بجاراتها الكبيرة من جميع حدودها الأرضية ..ولكن لقطر مع ذلك ثروة غازية هائلة فهي رابع المنتجين عالميا وأول المصدرين للغاز السائل بما سمح لها بان تكون في الثلاثي الأول في الترتيب العالمي من حيث معدل الدخل الفردي (حوالي 100.000دولار سنويا للفرد الواحد في سنة 2013..)
لقد سعت القيادة القطرية منذ سنة 1995 إلى أن تجعل من هذه الثروة الطائلة عنصرا قويا لاستقلالية ديبلوماسية عبر نسيج من العلاقات معقد إلى درجة أنه أضحى احد الغاز السياسة الدولية ..ولقد كان ملف تحديد طبيعة السياسة الخارجية لقطر هو اول ملف وجده الرئيس الأمريكي باراك اوباما عند انتخابه لأول عهدة سنة 2008..

بدأت دولة قطر بذراع إعلامية بالغة التأثير : قناة الجزيرة التي بدأت تبث منذ سنة 1996 تحت شعار كان غريبا على المنطقة العربية عامة والخليجية تحديدا (الرأي والرأي الآخر ) وطبّعت قطر مع إسرائيل وفتحت ذراعيها لحركات الإخوان المسلمين وشظاياهم العديدة في العالم العربي واحتضنت جملة من المعارضين العرب شريطة أن يكونوا متأقلمين اخوانيا ..كما انفتحت قطر على إيران وتركيا وبدأت تدريجيا تسعى للتأثير على سياسات الإقليمية وتحتضن فرقاء النزاعات المسلحة (دارفور ..جنوب السودان ..) وكانت الجزيرة القناة التي بها يخاطب تنظيم القاعدة سائر العرب كما ساندت حزب الله في حربه على إسرائيل ..

والهدف المعلن من كل ذلك هو تعويض الدور السعودي الاقليمي بلاعب جديد أكثر جاذبية : قطر:«ديمقراطية اسلاموية أمريكية -منفتحة على إسرائيل».

ولعل أهم الأدوار لقطر هو ادعاؤها مناصرة «الربيع العربي» وهي تقصد طبعا مناصرة الموالين لها من الشخصيات والتنظيمات التي وجدت نفسها في مقدمة الأحداث في جملة من الدول العربية سنة 2011 ومع العلم أن قطر لم تكتف بالإسناد السياسي بل تدخلت بطائراتها في ليبيا ضد نظام القذافي كما سعت منذ بواكير الأزمة السورية إلى تسليح فصائل المعارضة من الإخوان إلى القاعدة وجعلت من إسقاط نظام الأسد أول أولوياتها..
ولعلّ الموقف ، من الأزمة السورية هو الذي وحدّ ، ظاهريا، دول الخليج إلى وقت قصير لأنها توافقت جميعها – وخاصة السعودية والإمارات وقطر – على ضرورة إنهاء حكم الأسد..
ولكن هذا الاتفاق الظاهري لم يخف عناصر الخلاف الجذرية وخاصة حول ملفين أساسيين بالنسبة لأغلبية الدول الخليجية وهما الموقف من الإخوان المسلمين ومن إيران ..

قد لا نفهم جيدا نحن دول المغرب العربي لم كل هذا الخلاف حول العلاقة بالإخوان لاسيما وأن المملكة الوهابية كانت أول داعمي التنظيم الذي أسسه حسن البنا بمصر سنة 1928 وكانت هي التي احتضنت في السبعينات قيادات إخوانية بارزة خرجت مع صعود أنور السادات للحكم من السجون الناصرية .

لقد تعايش الإخوان المسلمون والوهابيون عقدين من الزمن (سبعينات وثمانينات القرن الماضي) أفضل ما يكون التعايش وتثاقفا الى ابعد حدود التثاقف فالإخوان تسلفوا وتوهبنوا (نسبة إلى العقائد السلفية للوهابية) والوهابيون تاخونوا.. فالإخوان أصبحوا يؤسسون نهجهم على قراءة سلفية للنصوص ورجالات الوهابية خرجوا من المسائل الفلكلورية والقبورية وأصبحوا يتحدثون في مجال السياسات العامة وهذا المزيج الاخواني الوهابي أنتج مدرسة كان لها تأثير كبير في السعودية وبقية دول الخليج وهي ما سمي بالصحوة الإسلامية ورموزها السعوديون كانوا سلمان العودة وسفر الحوالي وعائض القرني ..كما تأسس تيار قوي داخل السعودية يسمى بالسرورية (نسبة إلى الاخواني السوري المنشق محمد سرور زين العابدين) وهو مزيج بين الفكر الإخواني القطبي (نسبة إلى سيد قطب المنظر الاخواني الأبرز للتيارات الجهادية) وبين الفكر السلفي الوهابي ..

ولكن فترة العسل بين الإخوان والأنظمة الخليجية لم تعمّر طويلا إذ قادت هذه التيارات الجديدة (الصحوة والسرورية أساسا) معارضة للنظام السعودي خاصة في حرب الخليج الأولى باعتبار تواطؤ حاكم المملكة مع دول الغرب الاستعمارية وكان هذا هو نفس موقف زعيم القاعدة أسامة بن لادن ..ومنذ تلك الفترة استفحل العداء بين النظام السعودي والإخوان (بداية تسعينات القرن الماضي) وسجن أهم رموز تيار الصحوة وتمت ملاحقة السروريين ..وأصبح الإخوان ومن انحدر منهم هم العدو الأول والأكبر للمملكة الوهابية ..وأصبحوا يتهمون بالتآمر على امن دول الخليج (محاولة انقلاب اخوانية أفشلت في الإمارات سنة 2012)..

وهنا يتضح بان تحالف قطر مع الإخوان مثل تحديا سياسيا وامنيا كبيرا للغاية للأخ الأكبر وخروجا على الصف الخليجي كما تراه السعودية..

ولم تكتف قطر بهذا التحالف بل استثمرت فيه سياسيا إلى الأقصى ففي مصر مع مرسي ضد السيسي وفي تونس مع الترويكا وخاصة حزب المؤتمر المنخرط كليا في الإستراتيجية القطرية والنهضة المتقاذفة بين هوى سعودي قديم وهوى قطري جارف وفي ليبيا مع مجموعات فجر ليبيا ضد حكومة السراج وجيش حفتر ..وهكذا أصبحت قطر الراعي والحامي الأساسي للعالمية الإسلاموية (l’internationale islamiste) من الأخوان إلى السلفية الجهادية المعولمة في نسختها القاعدية ..
ولكن قطر لم تكتف بهذا بل تحدت الأخ الأكبر بالاقتراب من عدوه التاريخي اللدود إيران في استعادة جديدة للصراع التليد بين الشيعة والسنة ..وكالعادة قطر لا تقف عند حدود الديبلوماسية بل تتعداها إلى الميدان العملي وسياسات ثنائية متناقضة لا يعلم تأويلها إلا الراسخون في التسبيح باسم قطر ..فقطر مع السعودية في تحالفها ضد الحوثيين في اليمن ولكنها تفتح أكثر من قناة اتصال بإيران الداعم الأول والأكبر للحوثيين (شيعة زيدية اقتربوا كثيرا من الشيعة الإمامية مع صعود نجم الثورة الإسلامية بإيران ) وللحراك الشيعي بالبحرين..

فالدوحة أضحت إذن بالنسبة للوهابيين وحلفائهم الراعي الأول والأكبر للإرهاب ..إرهاب الإخوان وإرهاب إيران ..

كل المؤشرات تفيد بأن القرار السعودي بقطع العلاقات الديبلوماسية الكاملة والشاملة مع قطر والذي اخذ بعد التشاور مع مصر والإمارات والبحرين هو قرار إقليمي إلى حد الآن دون سند دولي ..ويبدو أن نية السعودية وحلفائها تتجه إلى الخنق النهائي لدولة قطر ولتشجيع تغيير سياسي على رأس الدوحة من داخل الأسرة الحاكمة ذاتها لإفراز قيادة مهادنة للأخ الأكبر ..
لا نعلم اليوم مدى قدرة صمود النظام القطري أمام هذه المقاطعة الإقليمية الكاسحة .؟ فحلفاء قطر الفعليون (الحركات الاخوانية والقريبة منها) لا يمكن أن تحمي قطر بل هي تحتاج لمن يحميها ..

السؤال سيطرح بقوة على دول مجلس التعاون الخليجي وخاصة الكويت وسلطنة عمان الذين لم ينخرطوا في هذه المحاصرة في بدايتها فهل سيلتحقون بها أم سيسعون إلى القيام بدور وساطة وإعادة ترتيب البيت الخليجي من جديد؟
ولا ندري كذلك كيف ستتصرف الإدارة الأمريكية الجديدة في هذا الملف ؟ هل ستترك للقوى الإقليمية حرية التصرف أم ستضع خطوطا حمراء من صنف عدم المساس بالنظام القطري إذ لا ينبغي أن ننسى بأن الإمارة تحتضن أهم قاعدة عسكرية أمريكية في المنطقة ..
الواضح بأن الكيل قد طفح بين قطر وبين السعودية ومصر وحلفائهما .. وموازين القوى مبدئيا ليست لصالح الإمارة الصغيرة ..
ولكن إلى أي حدّ والى أي مجال ؟

الأيام القادمة سنكون حبلى بتحولات إقليمية كبرى وسوف يكون لهذا الزلزال ارتداداته في دول عربية كثيرة ومن بينها تونس ..

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115